حتّى اللحظة، مازالت الأمور تتسم بالكثير من الضبابيّة على مستوى الخطّة الماليّة، التي يُفترض أن يسير على أساسها لاحقًا الاتفاق النهائي مع صندوق النقد. المعطيات المتوفّرة تفيد بأن سعادة الشامي، وبصفته رئيس الوفد المفاوض مع صندوق النقد، ما زال مصرّاً على جميع مبادئ خطّة الحكومة الأساسيّة: لا استعمال للمال أو الأصول العامّة في عمليّة إطفاء خسائر المصارف، مع شطب الرساميل وودائع الأطراف ذات الصلة (أي المساهمين) حتّى آخر رمق، قبل الانتقال إلى تحميل الخسارة لأي طرف آخر، وتصفية المصارف غير القادرة على إعادة الرسملة ودمجها في المصارف القادرة على الاستمرار.
في خلاصة الأمر، لا يبدو أن سعادة الشامي قد تراجع قيد أنملة حتّى اللحظة في كل ما يعمل عليه مع صندوق النقد، حتّى بعد أن طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من النوّاب “نسيان الخطّة الحكوميّة”، واعدًا بتعديلها وتقديم خطّة جديدة (راجع “المدن”). وبذلك، يمكن تلخيص المشهد بعبارة واحدة: الشامي يصمد ويعدّ عصي جمعيّة المصارف، وميقاتي يناور.
الشامي يعد العصي
يسير الشامي على طريق وعر. تشاكسه جمعيّة المصارف التي تطلق نيرانها على الخطّة، باعتماد الخلط الشعبوي بين فكرتي الاعتراف بالخسائر المحققة وشطب الودائع. ويستهدفه على نحو غير متوقّع نائب تغييري كملحم خلف، ملوحًا بمقاضاته في الولايات المتحدة بأحكام قانون ماغنيتسكي، في حال أصرّ على السير بخطته على شكلها الحالي. وعبر معظم وسائل الإعلام، يطل سيلٌ من “الخبراء” الذين يكررون المعزوفة نفسها: إنّها خطّة شطب الودائع، وتفليس النظام المصرفي.. وماذا عن “مسؤوليّة الدولة”؟ وعند الإصرار على مبدأ مسؤوليّة الدولة، فالمقصود حتمًا المقدار الذي سيتحمّله المال العام من خسائر المصارف.
بوجه “البوكر فايس” الذي يشتهر به، يغوص الشامي في الحجج التي يقدمها: هذا أقصى ما يمكن أن يمر في أي تفاهم مع صندوق النقد. وما يمرّره الصندوق هنا، أرأف بالبلاد والعباد مما يريده ساسة الدولة اللبنانيّة وخبراؤها، الباحثين عن رهن موارد الدولة اللبنانيّة لعقود، لتقليص الخسائر التي ستتحمّلها رساميل المصارف، ولتكريس مبدأ “قدسيّة الودائع” من دون أي تمييز في حجمها ومصدرها وطريقة تكوّنها.
في الأصل، بات من الأكيد أن الخطة قادرة على سداد 88% من الحسابات المصرفيّة من الموجودات المتبقية في القطاع (بعد تسديد مبلغ يتراوح بين 100 و150 ألف دولار لكل مودع)، فيما يمكن اللجوء إلى سداد نسبة كبيرة من الودائع المتبقية بالـ”ليلرة” المحدودة النطاق أو التقسيط أو تحويلها إلى أسهم. وإذا ما وضعنا مبدأ “قدسيّة الودائع” جانبًا، فثمّة قدر وازن من الخسائر التي يمكن تحميلها لأرباح الهندسات والتحويلات الاستنسابيّة من الليرة إلى الدولار والفوائد المرتفعة وغيرها. بهذا المعنى، لا يوجد منطق في الوصول إلى مرحلة تكبيد المجتمع كلفة إنقاذ المصارف، عبر الإنفاق من المال العام كما تطلب جمعيّة المصارف، إلا إذا كان المطلوب تخصيص هذه الموارد لإنعاش بضعة آلاف الأشخاص من مالكي المصارف وأصحاب الشريحة الأكبر من الودائع، بدل تخصيصها لإنعاش الاقتصاد والمجتمع في مرحلة التصحيح المالي.
ميقاتي يلعب لعبته
وفيما يعد الشامي العصي، يلعب ميقاتي لعبته، ويقفز بين ألغام عالم المال ويراقص تناقضاته، تمامًا كما اشتهر بالقفز بين تناقضات عالم السياسة ببرودة شديدة. تارةً يعد النوّاب بالوقوف عند خاطر جمعيّة المصارف، وتعديل خطّته على نحو يتبنّى مطلب رهن إيرادات الدولة المستقبليّة لإطفاء الخسائر المصرفيّة. ثم يطلب –خلف الكواليس- إعطاءه بعض الوقت لـ”دوزنة” الموقف والعمل على تعديل الخطّة بهدوء، كي لا يؤدّي المقترح المستجد إلى الإطاحة بالتفاهم المبدئي المعقود مع الصندوق، بالنظر إلى تشدد الصندوق في مسألة رفض تخصيص المال العام للتعامل مع الخسائر.
يُسأل ميقاتي عن موقف الشامي، فيطلب المزيد من الوقت لحلحلة المسألة. ثم يُسأل عن كيفيّة إقناع صندوق النقد بفكرة جهنمية من قبيل رهن فوائض الميزانيّة العامّة لعقود من أجل تسديد إلتزامات قطاع مصرفي متعثّر، فيطلب المزيد من الوقت للتعامل مع الصندوق. ثم يتحدّث عن “صندوق التعافي” في مكان، وعن “شركات ذات غرض خاصّ” في مكان آخر، قبل أن يشير إلى “قطاعات إنتاجيّة” يمكن الاستفادة من عوائدها للتعامل مع الخسائر في المستقبل. يأخذ ميقاتي وقته في الابتكار والاختراع، فيشتري في كل مرّة بعض الوقت، ثم يناور يمنة ويسرة بعيدًا عن إصرار نائبه سعادة شامي على مندرجات الخطّة الأصليّة! لا بل وبعيدًا عن تأكيد الشامي على أنّ الخطّة الأصليّة هي أبعد ما يمكن أن يمرره صندوق النقد في أي تفاهم نهائي.
هكذا يبدو المشهد المالي ضائعًا بين تمسّك سعادة الشامي بالخطّة، وتأرجح ميقاتي ومناورته. ثمّة من يرجّح أن تكون المسألة مجرّد توزيع أدوار بين الرجلين، بما يسمح للشامي بلعب دور الشرطي الصارم على طاولة المفاوضات، فيما يلعب ميقاتي دور المهادن الماكر. وثمّة من يرجّح أن تكون المسألة مجرّد محاولة من ميقاتي لتحييد نفسه عن سخط المصارف وسهامها الإعلاميّة، في مقابل تحميل الشامي عبء فرض الخطّة الماليّة الصارمة لاحقًا. وثمّة من يعتقد أن ميقاتي قد حزم أمره، وقرر بالفعل تعديل الخطّة بمجرّد تشكيل حكومته الجديدة، فيما يصر الشامي على الدفاع عن خطّته الحاليّة من زاوية مبدئيّة ليس إلّا. في النتيجة، من المفترض أن تُحسم الأمور خلال المرحلة المقبلة، بعد أن يتبيّن مدى جديّة حديث ميقاتي عن تعديل خطة حكومته.