على مدى الأيّام الماضية، تفاعل الحديث حول الخطّة الحكوميّة الجديدة، الرامية إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي والتعامل مع أزمة الودائع. صحيح أنّ مسودّة مشروع القانون لم تُطرح على طاولة مجلس الوزراء ببنود واضحة يمكن إحالتها إلى مجلس النوّاب، إلا أن العرض المرئي الذي تسرّب -من اللجنة الاستشاريّة- كان كفيلاً بإيضاح وجهة الأمور. الكارثة في ما يُطرح اليوم، تكمن في أنّه لا يحقّق أي هدف يُرتجى، ولو على حساب الأهداف الباقية. بمعنى أنّه لا يضمن أدنى حد من العدالة للمودع، ولا يَعد بأي انتظام نقدي على مستوى سعر الصرف، كما سيؤدّي حتمًا إلى تهشيم الماليّة العامّة للدولة لعقود. المطروح غير مجدٍ، وغير عادل، بمعزل عن الزاوية التي سننظر منها.
54% من الودائع غير مؤهّلة!
لنفهم مدى عدالة الخطّة بالنسبة للمودعين، من المفيد الغوص قليلًا في الأرقام. حجم الودائع الإجماليّة التي تتعامل معها الخطّة، يُقارب الـ 86 مليار دولار، وهو ما يقل بنحو 4 مليارات دولار عن حجم الودائع المذكورة في ميزانيّات القطاع (90 مليار دولار). الفارق هذا، يعود إلى تنزيل “الودائع الفريش” وأموال القطاع العام والسيولة المرهونة مقابل ديون، والتي لا يفترض أن تدخل ضمن عمليّة إعادة الهيكلة. السؤال حول عدالة الخطّة إذاً، سيرتبط بمصير الـ 86 مليار دولار.
من أصل هذا المبلغ، ثمّة مبالغ “غير مؤهّلة”، جريمتها الوحيدة هو تنقلها من حساب إلى آخر بعد الأزمة، ولو بنفس العملة. الدخول في الأرقام هنا، يكشف أن حجم الودائع غير المؤهّلة، سيبلغ 46.01 مليار دولار أميركي، ما يعني أنّ الخطّة جعلت 53.5% من الودائع غير مؤهّلة بشخطة قلم! الخطّة التي يفترض أن تعالج أزمة المودعين، بدأت هكذا.
أن تكون “مودع غير مؤهّل”، هو مسألة مكلفة طبعًا. الخطّة لن تضمن لك سوى 36 ألف دولار من ودائعك في جميع المصارف، بدل 100 ألف دولار بالنسبة للمودع المؤهّل. ثمّة قسم من هذه الأموال، سيرتبط بضمانة ما ستقدّمها الدولة اللبنانيّة، على أن يكون السداد على عاتق مصرف لبنان. لا تفصّل الخطّة نوعيّة الضمانة أو مصير الأموال إذا عجزت الدولة على الوفاء بهذه الالتزام. لكن في مطلق الأحوال، المودع المؤهّل سينتظر ضمانته هنا من دولة متعثّرة، لا تملك القدرة على تسديد ديونها القائمة أصلًا.
الأمر سيكون أفضل حالًا مع المودع المؤهّل، الذي سيحصل على 100 ألف دولار من أمواله في جميع المصارف. وبخلاف المودع غير المؤهّل، سيحصل المؤهّل على أمواله كاملة بالدولار النقدي، ومن سيولة المصارف ومصرف لبنان، ولن يحتاج إلى ضمانة الدولة لدفعات ستُقدّم بالليرة اللبنانيّة. لكن في الحالتين، بالنسبة للمؤهّل وغير المؤهّل، سينتظر المودع تقسيط أمواله على 11 سنة مقبلة. المودع المؤهّل المحظوظ، لن يحصل على أكثر من 4800 دولار سنويًا في المرحلة الأولى من الخطّة.
وبالأرقام مجددًا: ما ستضمنه الخطّة عمليًا هو 11.8 مليار دولار من الأموال المؤهلة المحظوظة، و5.19 مليار دولار من الأموال غير المؤهّلة (لم نحتسب هنا ما سيسدد بالليرة وبضمانة الدولة). المبالغ المضمونة، مؤهلة وغير مؤهلة، هي 16.99 مليار دولار، من أصل الـ 86 مليار دولار التي تتعامل معها الخطّة. أو بمعنى آخر، تضمن الخطّة 19.75% من الودائع المصرفيّة فقط.
المساءلة والمحاسبيّة الشكليّة
أحد جوانب الخطّة، يحاول إعطاء لمسة “محاسبة ومساءلة”، للإيحاء بأن ثمّة قدر من العدالة في عمليّة “التشطيب” التي تجري من أصل قيمة الودائع. الخطّة تنص على خضوع الودائع التي تتخطّى قيمتها الـ 500 ألف دولار لعمليّة تجديد نموذج “إعرف عميلك”، على أن يخضع لهذا الإجراء جميع الأشخاص المعرّضين سياسيًا عند تجاوز قيمة وديعتهم الـ 300 ألف دولار. ومن يفشل في إثبات مصدر الأموال، تخرج وديعته من ميزانيّة المصرف تلقائيًا.
ما تعرضه الخطّة هنا، ليس سوى مساءلة ومحاسبة شكليّة. فنموذج “إعرف عميلك” الذي تتحدّث عنه الخطة موجود أساسًا، كجزء من عمليّة فتح أي حساب مصرفي، والآليّة هذه موجودة أصلًا في المصارف منذ 25 سنة على أقل تقدير. والتعاميم القائمة داخل كل مصرف، تنص على تجديد هذا النموذج بشكل دوري. بخلاف هذا الإجراء القائم حاليًا، لم تنص الخطّة على أي معايير رقابيّة إضافيّة واضحة، تضمن خضوع الودائع لتدقيق أكثر جديّة، بما يصفّي الودائع من “الأموال المشتبه بها”. باخصار، هذا الجانب من الخطّة ليس سوى كلام استعراضي، يصعب ترجمته بأي خطوات تنفيذيّة ملموسة لاحقًا.
بالأرقام، تتوقّع الخطّة أن يمكنها هذا الأجراء من شطب 4.65% من الأموال الموجودة في المصارف حاليًا. غير أنّ هذا الرقم ليس سوى تقدير عشوائي، طالما أن الأموال المشكوك بمصدرها غائبة أصلًا عن الآليّات الرقابيّة القائمة، وطالما أن التقديرات لا تستند إلى أي آليّات جديدة موثوقة. وهذه العبثيّة في أرقام الخطّة، تطرح السؤال حول واقعيّتها وقدرتها على التعامل مع أزمة المصارف.
ليرة الودائع وضرب قيمة الليرة
تحويل الودائع المدولرة إلى الليرة اللبنانيّة، يمثّل جزءًا أساسيًا من المعالجات التي تطرحها الخطّة. فعلى سبيل المثال، تنص الخطّة على تحويل ودائع بقيمة 21.05 مليار دولار، إلى سيولة بالعملة المحليّة بقيمة 678.72 ترليون ليرة، بالنسبة للحسابات التي تتراوح قيمتها بين 100 ألف و500 ألف دولار أميركي. وعمليّة التحويل هذه، ستُخضع طبعًا الودائع إلى اقتطاعات تتراوح نسبتها بين 55% و70%، وفقًا لتصنيفها بين ودائع مؤهلة وغير مؤهلة. وعلى النحو نفسه، تطرح الخطّة تسديد ربع الجزء المضمون من الودائع غير المؤهلة بالليرة.
قيمة الأموال التي تطرح الخطّة دفعها بالليرة، بالنسبة للودائع التي تتراوح قيمتها بين 100 ألف و500 ألف دولار، توازي أكثر من 11 ضعف حجم الأموال الموجودة في السوق حاليًا بالليرة. وهذا ما يطرح السؤال عن كيفيّة ليلرة هذه الودائع، من دون الإطاحة بتوازات سعر الصرف الحاليّة. بل ثمّة ما يطرح الشك بأن نعود إلى زمن التباين بين سعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان، وسعر الصرف المعتمد في السوق الموازية، وهو ما سيزيد تدريجيًا من الاقتطاعات التي ستلحق بسحوبات المودعين بالليرة. في هذا الجانب، ثمّة خطر محدق بكل الاستقرار النقدي الراهن، وبحقوق المودعين ونسبة الأموال التي سيتمكنون من تحصيلها في المستقبل.
في الخلاصة، يمكن القول أن الفريق الاستشاري المحيط برئيس الحكومة قدّم أسوأ خطّة ماليّة تم عرضها حتّى هذه اللحظة، منذ بداية الأزمة، من جهة الحقوق التي سيحصّلها المودع في المستقبل. وإجراءات الخطّة المتسرّعة، ستُلحق الخراب كذلك بالسياسة النقديّة نفسها، وبسياسة الدولة الماليّة، بعد تحويل الجزء الأكبر من الودائع إلى إلتزامات أو ضمانات تقع على عاتق الدولة اللبنانيّة. الهدف الوحيد الذي ستحققه هذه الخطّة، هو طي صفحة الماضي، ودفن الجريمة الماليّة التي حصلت، عبر القفز فوق مبدأ المساءلة والمحاسبة في عمليّة إعادة هيكلة المصارف.