بالتوازي مع السجال الذي دار خلال الفترة الماضية، حول مسألة مسؤوليّة الدولة عن خسائر القطاع المصرفي ومصرف لبنان، تلقّى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اتصالًا من استشاري قانوني شهير ومخضرم مقيم في لندن، ومطّلع على أجواء حملة سندات اليوروبوند، أي سندات الدين بالعملات الأجنبيّة التي توقّف لبنان عن سدادها منذ أربع سنوات. الاستشاري، صاحب الباع الطويل في أسواق المال الدوليّة، كرّر كلمتين على مسمع رئيس الحكومة: “لا تفعلوها، لا تفعلوها. يمكن أن تخسروا كثيرًا، إذا حصل ذلك”. وحين يتحدّث عن الخسارة بلغة المخاطب، فهو يشير إلى الدولة اللبنانيّة، وعلاقتها القانونيّة –أو بالأحرى معركتها القانونيّة المتوقّعة- مع الدائنين الأجانب.
المسألة التي لا يفترض أن يفعلها لبنان، حسب الاستشاري، هي تحديدًا ما يجري اليوم: الاتجاه نحو استبدال مسار إعادة هيكلة المصارف، بتحويل الخسائر –والودائع– إلى إلتزامات على الدولة اللبنانيّة. وهي إلتزامات لن تُسدّد يومًا بطبيعة الحال، بالنظر إلى حجمها قياسًا بحجم الاقتصاد والأصول العامّة. والنتيجة التي يشير إليها الاستشاري، تكون متوقّعة جدًا: أن يتمكّن حملة سندات اليوروبوند من وضع اليد على ذهب واحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، بالاستناد إلى هذا الخطأ الذي سترتكبه الدولة. عدّة مصادر قانونيّة تشير إلى ذلك بصراحة، انطلاقًا من معلومات مؤكّدة عن استعدادات الدائنين واتجاهاتهم، لا من توقّعات نظريّة فقط. هذه الخطيئة الفادحة، سيتحمّل ثمنها المودع أولًا وماليّة مصرف لبنان ثانيًا. إذ لن يكون بالإمكان أن يضمن القطاع المصرفي سداد أي وديعة لأي أحد، مهما كان ضئيلًا.
أربعة مسارات قائمة لتنفيذ جريمة العصر
جريمة العصر، أي تحويل كتلة من ودائع المصارف إلى إلتزامات ورقيّة على المال العام والدولة، تجري اليوم بثبات عبر أربع مسارات وثّقت “المدن” تطوّرها طوال الأشهر الماضية. غير أنّ الأيّام القليلة الماضية شهدت بعض التطوّرات في كل هذه المسارات، وذلك على النحو التالي:
– على المستوى النيابي، باشرت لجنة الإدارة والعدل يوم الثلاثاء اجتماعاتها الرامية لإعداد مشروع قانون، ينظّم عمليّة وضع اليد على الأصول والمرافق العامّة، واستخدامها لإطفاء الخسائر المصرفيّة. في أوّل اجتماع مخصّص للبحث في الموضوع، قررت اللجنة تشكيل لجنة فرعيّة، بهدف دمج مشروعين تقدّم بهما نوّاب حركة أمل من جهة، والقوّات اللبنانيّة من جهة أخرى، وهو ما يؤشّر إلى حجم التأييد السياسي الذي يلقاه هذا المشروع. أمّا الملفت للنظر، فهو سير المجلس النيابي بإعداد هذا القانون قبل أن يتم إنجاز أي تدقيق للميزانيّات المصرفيّة، وقبل أن يتضح حجم الخسائر المتراكمة في كل مصرف لبنان، ومن دون وجود قانون يحدد مسؤوليّة الدولة في عمليّة إعادة هيكلة المصارف.
– على المستوى الوزاري، توقّف كليًا البحث في مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، الذي كان يفترض أن يعالج خسائر المصارف وفق معايير معيّنة بدل تحميلها –ككتلة واحدة- للدولة اللبنانيّة والمال العام. وكما هو معلوم، جاءت فرملة البحث في المشروع كنتيجة لاعتراض جمعيّة المصارف على بعض بنوده مثل: شطب رساميل أصحاب المصارف وفرض إعادة الرسملة، واستعادة بعض أرباح الهندسات الماليّة وفوائض الفوائد، وتمييز الودائع غير المشروعة، كما اعترضت جمعيّة المصارف على سداد الودائع المضمونة بقيمتها الفعليّة وبالدولار النقدي. هكذا، يأتي مشروع سلب أصول الدولة كبديل عن المعايير، التي رفضتها جمعيّة المصارف في مشروع إعادة الهيكلة.
– على مستوى مصرف لبنان، تبنّى الحاكم بالإنابة وسيم منصوري في لقاءاته ومفاوضاته الأخيرة الإجراءات التي قام بها الحاكم السابق رياض سلامة، والتي حوّلت كتلة من الخسائر الناتجة عن تعاملات مصرف لبنان مع المصارف، إلى ديون على الدولة. وبهذا الشكل، باتت الأمور مشرّعة من الناحية المحاسبيّة لتنفيذ مشروع سلب الأصول العامّة، بالتوازي مع العمل على تشريعها في القانون الذي يعمل عليه المجلس النيابي.
– على المستوى الشعبي، واظب اللوبي المصرفي طوال الأيّام الماضية على ترويج الاحتفاء بإسقاط مشروع إعادة الهيكلة، بوصفه نصرًا ضد مشروع “شطب الودائع”، وتكريسًا لمفاهيم “مسؤوليّة الدولة” عن ديونها و”قدسيّة الودائع”. مع الإشارة طبعًا إلى أنّ كتاب جمعيّة المصارف، الموجّه إلى القوى السياسيّة، والذي أسقط المشروع، لم يناقش أصلًا فكرة ضمان الودائع، بل على العكس تمامًا ركّز على مبدأ قدسيّة رساميل أصحاب المصارف، مقابل التملّص من سداد الودائع المضمونة بقيمتها الفعليّة.
بهذا الشكل، باتت الأمور مهيأة تمامًا للمشروع الذي طرحته جمعيّة المصارف منذ العام 2020، الذي يقدّم بديلًا عن إعادة الهيكلة المصرفيّة، ولو كان هذا البديل غير قادر على ضمان إعادة الودائع أو نهوض الدولة واقتصادها. أمّا الأخطر، فهو أنّ هذا البديل سيمكّن الدائنين الأجانب من تحصيل أدوات تمكّنهم من وضع اليد على أصول مصرف لبنان في الخارج، وأبرزها الذهب المودع في الولايات المتحدة، واحتياطات المصرف لدى المصارف المراسلة وطائرات شركة الميدل إيست.
كيف سيستفيد حملة سندات اليوروبوند؟
كل ما سبق ذكره من تطوّرات، راقبه حملة السندات بعناية، بل ودرسوه لتحصيل أفضل موقع قانوني في وجه الدولة اللبنانيّة، بهدف الوصول إلى مرحلة وضع اليد على أصول مصرف لبنان في الخارج. وتشير المصادر القانونيّة المتابعة للملف في الخارج إلى أنّ الخطيئة التي ترتكبها حاليًا الدولة اللبنانيّة ستسمح بتحقيق هذا الهدف من ناحيتين:
– أولًا، قام مصرف لبنان خلال شهر شباط الماضي بإضافة ديون جديدة على الدولة، توازي أكثر من ضعفي الديون القائمة بالعملات الأجنبيّة، مع احتساب فوائد هذه الديون. وبهذا الشكل، يكون المصرف المركزي مسؤولًا بالتكافل والتضامن مع الدولة عن عمليّة احتياليّة، “أخفت” ديوناً قديمة وأضافتها بعد التعثّر. وهذه الحيلة ترتبط بشكل وثيق بمصالح حملة السندات، الذين لم يلحظوا هذه الديون في الماضي عند إقراض الدولة.
– سيحاجج الدائنون أن هناك شكوكاً حقيقيّة في مشروعيّة هذه الديون الجديدة، التي ستشارك حملة سندات الدين المشروعين في دينهم على الدولة، عند إجراء عمليّة إعادة الهيكلة. وإذا كان المصرف المركزي يحمّل خسائره –وخسائر المصارف- للدولة المدينة لحملة السندات، فمن حق حملة السندات ملاحقة موجودات المصرف نفسه، في مقابل الديون التي يحملها زورًا للدولة.
– بحسب اجتهادات محاكم نيويورك، التي تنظّم علاقة لبنان بحملة السندات، ترتبط حصانة موجودات المصرف المركزي بمدى اتصالها بعمله كمصرف مركزي. لكنّ تحايل المصرف لإخفاء ديون عامّة مزعومة، في نفس الميزانيّة التي تحمل هذه الموجودات، لا يمثّل مهمّة تقليديّة من مهام المصارف المركزي. بل على العكس تمامًا، عمل هذا المصرف كان جزءًا من النموذج الذي فرّط بمصالح الدائنين، وعن خبث وسوء نيّة.
– إنّ كل ما تملكه الدولة من أصول عامّة داخل لبنان، يتم تبديده لمصلحة ديون مترتبة على قطاع مصرفي متعثّر، وهذا خارج عن سيطرة حملة السندات في الخارج، لكنّه يحرم حملة السندات من الإيرادات التي يمكن أن تسدد ديونهم. ومن هذه الزاوية، من حق حملة السندات تجريد القطاع –في المقابل- من أصول موازية موجودة لدى مصرف لبنان.
بهذا الشكل، سيكون المودع قد ربط مصالحه ووديعته بإلتزامات ستترتّب على الدولة اللبنانيّة، من دون وجود أي مؤشّر إلى إمكانيّة سداد هذه الإلتزامات في المستقبل، حتّى لو تم إنشاء “صندوق استثمار الأصول العامّة” الموعود. فعدم قدرة الدولة على إعادة هيكلة ديونها، وعدم قدرتها على توقيع اتفاق مع صندوق النقد، بعد تنفيذ هذا المشروع، سيطيح بإمكانيّة القيام بأي استثمار مجدٍ في القطاعات العامّة. في المقابل، سيكون مصرف لبنان قد منح الدائنين الأجانب القدرة على تهديد آخر ما تبقى من ملاءة المصرف المركزي، أي آخر ما يمنحه القدرة على ضمان الحد من الودائع.
المستفيد الوحيد من هذه المعادلة، هو من لا يريد إعادة الهيكلة، هو جمعيّة المصارف.