الأسابيع القليلة التي استهلكت للنقاش في لجان استشارية أو وزارية أو على صعيد مجلس الوزراء لوضع الخطة المالية والاقتصادية، كشفت الكثير عن التركيبة الفعلية لهذه البلاد. لكن الخلل الذي ستتحمل هذه الحكومة المسؤولية عنه، هو تجاوز إمكانية التفاهم الوطني العام على خطة المواجهة. وعندما يجري الحديث عن تفاهم وطني عام، فذلك لا يوجب بالضرورة الوقوف عند خاطر قوى وزعامات، بل يعني إشراك جميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية المعنية بالأزمة. والعنوان الصحيح الواقعي كان ولا يزال في خطة «تضمن توزيعاً عادلاً للمسؤوليات والتضحيات». وهي خطة تفترض أن يشارك فيها كل من سيتحمّل المسؤولية ودفع الأثمان. لكن ما حصل هو أن الحكومة وقعت ضحية الضغوط السياسية العشوائية. وهي ضغوط لا يمكن القول إنها لم تكن متوقعة.
يعرف الرئيس حسان دياب وغالبية الوزراء أنهم وصلوا نتيجة تفاهم سياسي غير معلن، بين فريق من أهل الحكم، وفريق من الشارع. وهذا «التفاهم» كان نتيجة اضطرار القوى السياسية إلى عدم تجاهل «المزاج العام» الذي ساد بعد اندلاع حراك 17 تشرين الأول الماضي. هنا يجب تذكير رئيس الحكومة والوزراء بأنه لولا هذا «المزاج»، لما كان بالإمكان تشكيل أول حكومة خالية من السياسيين منذ عام 1990، واستبدالهم بشخصيات ذات طابع تقني بمعزل عن صلاتها أو تمثيلها السياسي. وكان هذا الأمر بمثابة انقلاب غير عادي. يكفي أن نغمض أعيننا للحظات، ونتخيّل كيف قبلت قوى وزعامات بالبحث عن أسماء من خارج مكاتبها السياسية أو كتلها النيابية أو حاشيتها المباشرة.
مشكلة دياب والوزراء أنهم تجاهلوا عنصر القوة هذا، وعادوا ليكونوا أسرى القواعد السياسية إياها. وإلا كيف يمكن تفسير تعطّل التشكيلات القضائية والتعيينات المالية، أو الحالة التي ترافق البحث في هوية المحافظ الجديد لبيروت. كل هذا النقاش ما كان ليكون لو أن الحكومة ذهبت مباشرة إلى آليات ذات طابع قانوني، تلزم بها القوى السياسية في التعيينات. أما البحث عن مراضاة هذا أو ذاك، فهو ما يجعل المكاتب السياسية للطوائف ممثلة بالمرجعيات الدينية تعود لتعتبر نفسها شريكة في أي قرار إداري تتخذه الحكومة.
ولأن الحكومة قبلت هذه القواعد، صارت المناقشات داخل مجلس الوزراء تتأثر بهذا المناخ الجديد. إن تراخي الرئيس دياب إزاء القوى السياسية سيجعله يدفع الثمن تراجعاً تدريجياً في التضامن الحكومي. وسيجد يوماً بعد يوم، من يتمرّد عليه من الوزراء باسم تمثيله السياسي أو الطائفي أو المذهبي. وهو تمرّد سينعكس أساساً على قوة الحكومة وقدرتها على تحقيق ما هو مطلوب منها الآن.
وفي هذا السياق، تَظهر المشكلة الأكبر في مقاربة المشكلة المالية والاقتصادية. إن مجرد الرضوخ لشعارات شعبوية لا تستند إلى علم أو حقائق، على طريقة الأخبار الزائفة التي تملأ فضاءات التواصل الاجتماعي، هو جريمة تدفع الى القرارات الخاطئة. في حالة المالية العامة، لا يمكن الركون الى الوجهة السائدة في الحديث عن كيفية خفض الدَّين واستعادة المال المنهوب. المتحدثون في هذه الأمور يعتبرون أن سياسيين أو موظفين كباراً نهبوا المال العام ونهبوا الناس. صحيح أنه يجب محاسبة كل هؤلاء، لكن الصحيح أيضاً، أن العاملين في حقول التجارة والبيع في قطاعات الخدمات العامة من مال وطعام ودواء واستشفاء وتعليم وبناء وسياحة، هؤلاء أيضاً نهبوا المال العام والخاص. هؤلاء استفادوا من الحظوة السياسية، ومن كل القوانين غير العادلة، ومارسوا التهرّب الضريبي على أنواعه، وراقَتْهم سياسات الفوائد والقروض المدعومة وعدم الرقابة على الأسعار، والتهريب عبر كل الحدود، وراكموا ثروات سببها تسعير غير منطقي جعل بيروت من أغلى عواصم العالم… ثم باعوا الدواء والاستشفاء بسعر يمثل ثلاثة أضعاف سعره في بلد المنشأ، هؤلاء أيضاً من سارقي المال العام، ويجب ملاحقتهم وإعادة التدقيق في ثرواتهم التي انتفخت بصورة غير منطقية.
إن تخلّي دياب والوزراء عن حصة «المزاج العام» للشارع اللبناني من الحكومة، أمر له تبعاته الكبيرة، وسيجعل دياب أسير الحسابات السياسية التقليدية. صحيح أن دياب لن يقدر على إنزال الناس الى الشارع. لكن أداء الحكومة يعقّد على الآخرين إنزال «ناسهم» الى الشوارع. ليست كورونا السبب الوحيد في عدم تجدد التحركات الشعبية. بل هناك التردد الذي يصيب الناس في بيوتهم حيال مَن يتحمل المسؤولية عن الواقع القائم. وبهذا المعنى، فإن تراجع دياب وحكومته نحو قواعد اللعبة التقليدية، يقودنا من جديد الى تمظهر الطبقة السياسية من خلال لجان وخطط. إن وضع خطة مالية ــــ اقتصادية يكون هدفها تلبية ملتوية لشروط صندوق النقد الدولي، لهو أمر لن يغضب سعد الحريري ولا فؤاد السنيورة ولا وليد جنبلاط ولا سمير جعجع ولا كل من هم خارج الحكومة. إن طريقة عمل الحكومة مع إدارة السياسة النقدية لا تختلف حتى اليوم عن أي إدارة سابقة، فلماذا يَغضب بقية أركان القوى السياسية إذاً؟
اليوم، سيعود وفد مصرف لبنان الى طاولة الاجتماعات مع صندوق النقد الدولي. لكنه يحمل معه ورقته الخاصة. ومهمة الوفد الدفاع عن موقع مصرف لبنان. يُفترض أن يشرح وجهة نظره بشأن كيفية احتساب الخسائر. وسيعرض طريقة للاحتساب تُظهر خسائره محدودة. وهو لن يدافع عن خطة الحكومة التي يقول رياض سلامة إنه أقصي عن البحث في تفاصيلها. وسيتقدم سلامة أكثر نحو الدفاع عن عدم تدخله في سوق القطع. وسيبرر موقفه بأن الحكومة قالت للناس إن خطتها تقود الى رفع سعر الدولار الى 3500 ليرة على الأقل. وإن وزير المالية أعلن الموافقة على تحرير سعر العملة بحسب مطالب صندوق النقد… وسيصرخ سلامة: إذا كنتم تريدون تحقيق هذه الشروط، فلماذا تطلبون مني إهدار دولارات لم أعد أملك الكثير منها؟
اليوم، يعرف الرئيس دياب كما وزراء الحكومة، كما بقية المعنيين، أن الشروط التي يضعها صندوق النقد، ظاهرها مالي ــــ نقدي ــــ إداري، وتركّز على تحرير كامل لسعر الصرف، وإجراء قصّ للودائع بصورة عشوائية وتخفيض حجم القطاع العام. وهذا الصندوق يَعد ــــ في المقابل ــــ بما لا يزيد على ثلاثة الى أربعة أضعاف حق لبنان بالاستدانة، أي ما لا يتجاوز الـ 3 مليارات دولار أميركي. وإذا كانت الحكومة تراهن، على أن موافقة صندوق النقد ستفتح له أبواب بقية الدائنين من دول ومصارف استثمار عالمية، فإن هذه الحكومة تعرف أن الشروط السياسية ستقفز من تلقاء نفسها الى الواجهة، وهي الشروط الموجودة على الطاولة وليس تحتها. وهي شروط تتلخص بضمانات عدم استفادة حزب الله من كل هذه السياسات والقروض. وبما أن الجميع يعرف أن هذه الاستفادة لم تكن قائمة وليست واردة في حسابات أحد بمن فيهم حزب الله، فإن الشرط الثاني الحاضر بقوة، هو المطلب الأميركي ــــ الأوروبي بمنع استفادة سوريا من هذه العمليات المالية. ولذلك، خرج أمر العمليات فوراً تحت عنوان: ضبط الحدود الشرقية للبنان. وسيخرج علينا من اللبنانيين، قَبل الأجانب، مَن يطالب ليس بنشر الجيش والقوى الأمنية على طول الحدود، بل بالاستعانة بالقوات الدولية أو المتعددة الجنسيات أو جيوش عربية لضمان إقفال المعابر غير الرسمية. وهي كلمة تخفي مطلباً أميركياً ــــ إسرائيلياً ــــ سعودياً واحداً اسمه: محاصرة المقاومة في لبنان!
الواضح أن على الحكومة والقوى الفاعلة فيها العودة الى البحث عن خيارات تمنع دفع البلاد صوب مواجهات لا قدرة له على تحمل نتائجها، ولا مصلحة له أصلاً بها. إن مطلب قطع لبنان عن سوريا أو جعله تحت رقابة أميركا وحلفائها، هو حرب تموز جديدة. والحكومة معنية ليس برفض الشروط وحسب، بل بالعودة إلى البحث عن خطة مالية واقتصادية جديدة. وهذه المرة، على رئيس الحكومة البحث عن عناوين ممثلي العقد الاجتماعي الحقيقي للبنان. الدولة وأرباب العمل وأصحاب المال والمواطنون والأجراء… هؤلاء يمكنهم وضع خطة صعبة، وطويلة المدى، لكنها تفسح في المجال أمام تعديلات جوهرية يحتاج إليها لبنان للبقاء على قيد الحياة!