بحلول ظهيرة أمس الأحد، كان سعر صرف الدولار الأميركي قد ارتفع في السوق الموازية ليلامس حدود 44,300 ليرة لبنانيّة، مقارنةً مع مستوى لم يتجاوز 40 ألف ليرة مقابل الدولار في الفترة المماثلة تمامًا من الشهر الماضي. بصورة أوضح، وخلال فترة شهر واحد بالتمام والكمال، سجّلت قيمة الدولار في السوق الموازية ارتفاعًا بنسبة قاربت 11%.
تطوّرات مخالفة للتوقّعات السابقة
للمفارقة، سجّلت السوق كل هذه التطوّرات السلبيّة في بدايات عطلة الأعياد مباشرة، والتي تشهد حاليًّا بداية تدفّق دولارات المغتربين الوافدين إلى لبنان، ما كان يُفترض أن يدعم قيمة الليرة في السوق الموازية لا العكس. مع الإشارة إلى أنّ جميع المؤشّرات تدل على أنّ شهر كانون الأوّل يفترض أن يشهد موسماً سياحياً واعداً، بعدما تم حجز أكثر من 90% من مقاعد الطائرات الوافدة خلال هذا الشهر، قبل شهر ونصف من موعد وصولها.
كما سجّلت السوق الموازية كل هذه التطورات السلبيّة، في حين أنّ مصرف لبنان كان قد وعد في بيانه الشهير –في الأسبوع الأخير من تشرين الأوّل- بتعليق عمليّات شراء الدولار عبر منصّته، والاكتفاء ببيعه ابتداءً من 25 تشرين الأوّل الماضي. ومرّة أخرى، كان من المفترض أن يعني هذا التطوّر تحسّناً في قيمة الليرة في السوق الموازية منذ ذلك الوقت، لا العكس، بالنظر إلى مفعول ضخ وعرض الدولار من قبل مصرف لبنان عبر المنصّة، والامتناع عن طلبه.
باختصار، تعارض مسار تدهور سعر صرف الليرة مع الكثير من التوقّعات، التي رجّحت أن تشهد السوق تهدئة مؤقّتة نتيجة هذه العوامل بالتحديد. إلا أنّ قراءة متمعّنة في ميزانيّات المصرف المركزي، سرعان ما تكشف أنّ ما جرى لم يكن سوى نتيجة طبيعيّة لبعض الإجراءات التي قام بها المصرف المؤخّرًا، والتي عاكس بعضها وعد التوقّف عن شراء الدولار من السوق.
عودة إلى شراء الدولارات من السوق
وفقًا للميزانيّة نصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان في أواخر الأسبوع الماضي، كان من الواضح أن حجم احتياطات العملات الأجنبيّة الموجودة بحوزة المصرف عاد للارتفاع، من 10.19 مليار دولار في بداية الشهر الحالي، إلى 10.25 مليار دولار في منتصف الشهر.
وبصورة أوضح، وخلال فترة لم تتجاوز الخمسة عشر يومًا، ارتفع حجم هذه الاحتياطات بنحو 63 مليون دولار، وهو ارتفاع لا يمكن تفسيره إلى بعودة المصرف إلى شراء الدولارات من السوق الموازية. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم الضغط التي تعرّضت له قيمة الليرة في السوق خلال هذه الفترة، طالما أنّ المصرف المركزي نفسه دخل مجددًا على خط طلب وامتصاص الدولار من السوق (وبمعدّل 6.3 مليون دولار في كل يوم عمل).
وبما أنّ المصرف المركزي يلجأ إلى طبع النقد بالليرة لشراء هذه الدولارات، كان من الطبيعي أن تنعكس هذه التطوّرات على حجم الليرات الورقيّة المتداولة في السوق، والتي ارتفعت قيمتها من 72.34 ألف مليار ليرة في بداية الشهر، إلى أكثر من 74.77 ألف مليار ليرة في منتصفه، أي بزيادة تقارب قيمتها 2.43 ألف مليار ليرة خلال فترة لا تتجاوز الخمسة عشر يومًا. مع الإشارة إلى أنّ حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة ورقيًّا اليوم، بات أعلى بنسبة 63% من حجم الكتلة النقديّة نفسها المتداولة في بداية السنة، والتي لم يتجاوز حجمها 45.76 ألف مليار ليرة لبنانيّة.
كما كان من الملفت تسجيل بند “الموجودات الأخرى” في ميزانيّة المصرف المركزي وجود ارتفاعات إضافيّة خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، حيث ارتفعت قيمة هذا البند من 91.32 مليار دولار في بداية كانون الأوّل، إلى نحو 93.51 مليار دولار في منتصف كانون الأوّل، ما عكس زيادة بقيمة 2.19 مليار دولار خلال هذه الفترة.
ورغم أهميّة متابعة تضخّم هذا البند، لكونه يمثّل الخسائر المتراكمة والمخفيّة في ميزانيّة المصرف، إلا أن تقدير تبعات هذه الزيادة يبقى متعذّرًا، لكون المصرف يخلط تحت هذا العنوان مجموع الخسائر المترتبة بالدولار النقدي والليرة اللبنانيّة، بينما يقوم بتسجيل كل هذه العمليّات وفقًا لسعر الصرف الرسمي القديم. ولهذا السبب، لا يمكن تقدير القيمة الحقيقيّة للخسائر الإضافيّة التي يتم تسجيلها اليوم تحت هذا البند، وهو ما يعكس –مرّة جديدة- ضعف معايير الشفافيّة المعتمدة في عرض أرقام المصرف.
نتيجة طبيعيّة
في خلاصة الأمر، لا يمكن توقّع سوى المزيد من الانخفاضات في قيمة الليرة اللبنانيّة في سوق القطع، حين يقوم المصرف المركزي بطبع الليرات وضخّها، لغاية شراء الدولار النقدي من السوق الموازية. فالنتيجة الطبيعيّة لهذه الإجراءات النقديّة، ليست سوى تضخيم المعروض النقدي من الليرات الورقيّة، وتقليص المعروض النقدي من العملة الصعبة، مقابل زيادة الطلب عليها.
ومن هنا، يصبح ما يجري اليوم في السوق مفهومًا وطبيعيًا، بخلاف ما ذهبت إليه التحليلات المتفاجئة بما يجري في السوق اليوم. مع الإشارة إلى أن مصرف لبنان خالف، في عمليّة شراء الدولار من السوق خلال هذا الشهر، الوعد الذي قطعه حين أعلن عن وقف عمليّات شراء الدولار عبر المنصّة، والذي تفاءلت به الأسواق خلال المرحلة السابقة، وهو ما سيؤثّر حكمًا على مصداقيّة البيانات المشابهة التي يصدرها دوريًّا المصرف المركزي.
في جميع الحالات، يبقى من الأكيد أن الحكم على خطوات المصرف المركزي، وتقييمها بشكل موضوعي، غير ممكن قبل تبيان وجهة استعمال الدولارات التي يتم شراؤها من السوق. فحتّى هذه اللحظة، لا يوجد ما يؤكّد تذليل العقبات التي حالت دون استعمال هذه الدولارات لشراء الفيول لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، كما وعد وزير الطاقة في مرحلة سابقة. كما لا يوجد أي تصريح أو بيان من جانب المصرف المركزي يشير إلى نوعيّة السياسات النقديّة الذي سيذهب باتجاهها المصرف في المرحلة المقبلة، وكيفيّة تنظيمه لعمليّة الإنفاق من الاحتياطات.