الإمارات والسعودية تسعيان إلى تحويل اقتصادهما عبر الذكاء الاصطناعي، متجهين نحو اقتصاد معرفي متنوع يقلّل الاعتماد على النفط. وتعكس هذه الاستراتيجية الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، تطوير الكفاءات البشرية، والشراكات العالمية، لتأمين نمو مستدام وتعزيز القدرة التنافسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
تشهد دول الخليج، وبالأخص الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، تحولاً استراتيجياً في اقتصاداتها، إذ أصبح الذكاء الاصطناعي أداة رئيسية لتقليل الاعتماد على النفط وتعزيز الاستدامة الاقتصادية. ويرى المحلل أليكس كيماني في تقرير نشره موقع أويل برايس أن هذا التوجه ليس مجرد استثمار تقني، بل يمثل إعادة تشكيل للنموذج الاقتصادي التقليدي الذي اعتمد لعقود على سلعة واحدة، مع إدراك متزايد لتقلبات الأسعار ومخاطر الأسواق العالمية.
وأثبتت السنوات الأخيرة أن الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على النفط تواجه تحديات مستمرة تتمثل في تقلبات الأسعار على المستوى العالمي، والتأثر بالسياسات الدولية، والتنافس بين منتجي الطاقة التقليديين والجدد، مما يجعل من الضروري البحث عن مصادر دخل جديدة ومستدامة.
ولتحقيق هذا الهدف، تسعى السعودية والإمارات إلى بناء مراكز بيانات ضخمة، وتطوير شبكات حوسبة سحابية متقدمة، والاستثمار في تصنيع الرقائق وأشباه الموصلات، بالتعاون مع عمالقة التكنولوجيا الأميركيين مثل نفيديا، أوراكل، ومايكروسوفت، في خطوة تهدف إلى تعزيز قدراتهما التنافسية على المستوى الإقليمي والدولي.
وتمثل هذه الاستثمارات جزءاً من خطة أوسع لتطوير بنية تحتية رقمية قوية، تعزز قدرة الدول على استيعاب وتطبيق أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجالات الاقتصادية والخدمية والإدارية.
وفي المملكة العربية السعودية، تعمل شركة الذكاء الاصطناعي “هيومن” تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة كأداة محورية لتنويع الاقتصاد الوطني، مع استثمارات موجهة نحو شركات ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي حول العالم. وتعتبر هذه المبادرة جزءاً من رؤية المملكة 2030، التي حددت الذكاء الاصطناعي كعنصر أساسي لتحويل الاقتصاد الوطني، إذ يشمل حوالي سبعين في المئة من أهدافها الاستراتيجية.
وقد دخلت “هيومن” في شراكات مع شركات كبرى مثل نفيديا وأوراكل وخدمات الحوسبة السحابية لشركة أمازون، بهدف بناء بنية تحتية قوية ومستدامة للذكاء الاصطناعي ودعم مشاريع البحث والتطوير، مما يعكس التزام المملكة بتقليل الاعتماد على النفط وخلق اقتصاد معرفي متكامل يعتمد على الابتكار والتقنيات الحديثة.
وتستند الاستراتيجية السعودية إلى تصور شامل يشمل تطوير القدرات البشرية والتقنية على حد سواء، من خلال برامج تدريبية متقدمة للمهندسين والمتخصصين في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى استقطاب خبراء دوليين لضمان نقل المعرفة وبناء قاعدة وطنية قوية في هذا المجال.
وتعمل المملكة أيضاً على دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الصناعة والطاقة والخدمات اللوجستية، بما يتيح تحسين الإنتاجية والكفاءة، وتقليل الهدر والتكاليف، ورفع مستوى الابتكار الصناعي والبحث العلمي. وفي الوقت نفسه، تبنت الإمارات استراتيجية مماثلة، حيث أطلقت أبوظبي صندوق ( ام جي اكس)، وهو صندوق استثماري بقيمة 100 مليار دولار مخصص لتطوير الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، بالشراكة بين صندوق مبادلة وG42 الإماراتية.
الابتكار والذكاء الاصطناعي هما المفتاح لبناء اقتصاد معرفي قوي قادر على تعزيز مكانة المنطقة على الخريطة العالمية للتكنولوجيا
ويركز الصندوق على البنية التحتية الرقمية، مراكز البيانات، تصميم وتصنيع أشباه الموصلات، ودعم التطبيقات الأساسية للذكاء الاصطناعي في البرمجيات والروبوتات والتحليلات المعقدة للبيانات. وقد شكل الصندوق شراكات مع مايكروسوفت وبلاك روك ونفيديا للاستثمار في مراكز البيانات والبنية التحتية العالمية، بما يعزز الطموح الإماراتي ليصبح أحد اللاعبين الرئيسيين في صناعة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.
وتتجلى رؤية أبوظبي بشكل أكثر وضوحاً في استراتيجيتها الرقمية للفترة 2025–2027، التي تهدف إلى تحويل الحكومة الإماراتية بالكامل إلى أول حكومة “ذكية بالكامل بالذكاء الاصطناعي” في العالم بحلول عام 2027، بحيث يتم دمج الذكاء الاصطناعي في صميم العمليات الحكومية وليس فقط كأداة مساعدة.
وتشمل هذه الاستراتيجية استثمار 13 مليار درهم إماراتي، أي ما يعادل نحو 3.54 مليار دولار، في تطوير البنية التحتية الرقمية، أتمتة جميع العمليات الحكومية، وتطبيق أكثر من 200 حل تقني قائم على الذكاء الاصطناعي في مختلف الخدمات الحكومية، وهو ما يعكس إدراك الدولة لأهمية التقنية في تحقيق الكفاءة والاستدامة.
وتأتي هذه المبادرة ضمن خطة أوسع لتحويل أبوظبي إلى مركز رقمي متقدم يقلّل الاعتماد على النفط ويخلق اقتصاداً معرفياً مستداماً قائمًا على الابتكار والبحث العلمي والتكنولوجي.
ويعد مشروع ” بوابة النجوم” واحدا من أبرز المشاريع التي تعكس هذا الطموح في الإمارات، وهو أكبر تجمع لمراكز البيانات في أبوظبي، والذي تم تطويره بالشراكة بين شركة G42 الإماراتية وOpenAI وعملاقة التكنولوجيا الأميركية، ويضم بنية تحتية فائقة بقدرة 1 غيغاواط لدعم تشغيل النماذج الضخمة للذكاء الاصطناعي، مع المرحلة الأولى المخطط تشغيلها بحلول عام 2026 بقدرة 200 ميغاواط.
ويمثل هذا المشروع جزءاً من استراتيجية الإمارات لبناء قدرات وطنية مستقلة للذكاء الاصطناعي وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الخارجية، مما يعكس مدى إدراكها لدور الذكاء الاصطناعي في تعزيز الكفاءة التشغيلية وتحقيق الاستدامة الاقتصادية، بالإضافة إلى تعزيز المكانة الدولية للإمارات كمركز للابتكار والتقنية المتقدمة في المنطقة.
لكن هذا التوجه ليس خالياً من التحديات، فهو يتطلب تطوير الكفاءات البشرية، وضمان الشفافية والأخلاقيات في استخدام الذكاء الاصطناعي، وإعادة تشكيل الثقافة المؤسسية للموظفين الحكوميين لتبني أسلوب عمل متكامل يعتمد على البيانات والتحليلات الدقيقة.
كما يتطلب نجاح هذه المبادرات التعاون بين القطاعين العام والخاص، وضع أطر تشريعية صارمة لحماية البيانات، وتوفير بيئة محفزة للابتكار التكنولوجي. وتشمل التحديات الحاجة إلى تأهيل كفاءات محلية قادرة على إدارة مشاريع ضخمة، ومواجهة المخاطر المتعلقة بالخصوصية والأمن السيبراني، وضمان أن تتسم النماذج المستخدمة للذكاء الاصطناعي بالعدالة وعدم التحيز، إلى جانب تطوير استراتيجيات مستدامة للتكيف مع التقنيات المتغيرة بسرعة.
ومن خلال هذه الجهود، يبدو الذكاء الاصطناعي بوابة حقيقية لدول الخليج نحو اقتصاد متنوع ومستدام، قادر على الصمود أمام تقلبات أسعار النفط، وفتح أفق جديد للنمو والابتكار.
وتمثل الإمارات والسعودية نموذجاً عملياً على كيفية تحويل الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة إلى استراتيجية اقتصادية شاملة، تجمع بين البنية التحتية الرقمية، الكفاءات البشرية، والشراكات العالمية، بما يضمن استدامة النمو ويعزز القدرة التنافسية على المستوى الإقليمي والدولي.
ويشير هذا التوجه إلى إدراك حكومات الخليج أن المستقبل الاقتصادي لا يمكن أن يعتمد على النفط وحده، وأن الابتكار والذكاء الاصطناعي هما المفتاح لبناء اقتصاد معرفي قوي قادر على خلق وظائف متقدمة، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز مكانة المنطقة على الخريطة العالمية للتكنولوجيا.
وبالإضافة إلى ذلك، تعكس هذه الاستراتيجيات تفاعلاً مع التحولات العالمية في مجالات الذكاء الاصطناعي والرقمنة، حيث أصبحت القدرة على ابتكار وتطبيق الحلول الذكية عاملاً أساسياً لتقوية الاقتصاد ومواجهة التحديات البيئية والاجتماعية. فالاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحكم والإدارة والخدمات العامة يساهم في تحسين كفاءة استخدام الموارد، وتخفيض الهدر، وتعزيز شفافية العمليات، وهو ما يدعم الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.



