الرقعة الرقم «8»: حيث تُبحِر السياسة ويغيب القانون (1/2)

في لبنان، لم يَعُد البحر ماءً ولا المَوج حدوداً، بل صار ذاكرة دولةٍ مبتلّة بالخوف. هنا، لا تُقاس السيادة بخطوط الجغرافيا، بل بمدى انحناء القرار أمام الريح القادمة من الخارج. في هذا البلد الذي يُكتَب قانونه بالحبر ويَمحوه بالملوحة، تغدو الرقعة «8» أكثر من ملفٍ بترولي عالقٍ في المياه اللبنانية، إنّها مرآةٌ تعكس وجه الدولة حين ترتجف أمام الخارج، وتخاف من النفوذ أكثر ممّا تحترم القانون.

في عمق هذا البحر، لا تُسمع لغة الدستور، بل همسات الولاء. الدولة لا ترفع رايتها، بل ترفع راية الطاعة، علّها تظفر بإنجازٍ يلمع للحظة ثم يتبخّر في زبد المَوج. السياسة هنا تُبحر بلا شراع، بلا بوصلة، بلا خريطة، والمَوج الذي كان يفترض أن يكون حدود السيادة صار مائدةً يتقاسمها الخارج والداخل معاً. أمّا القانون، فقد تحوّل من درعٍ للدولة إلى عباءةٍ مهترئة، تلبسها السلطة حين تخشى العُري وتخلعها حين تثقلها بالمساءلة.

الرقعة رقم «8» ليست مساحة بحرية عادية ضمن الرقع البحرية في المياه اللبنانية، بل مختبر سياسيٌّ لمدى صمود القانون أمام الضغط، اختبارٌ يوميٌّ في دولةٍ تُدار بالهواجس والرسائل، لا بالمؤسسات. فالنفوذ الخارجي في لبنان لا يأتي بالدبابات، بل بالتلويح بالعصا، يضغط من بعيد ويُعيد توجيه الدفّة كما يشاء.

في أيلول 2023، وقبل أسابيع قليلة من اندلاع حرب غزة، كان البحر اللبناني يلوّح بوعد الثروة. تركّزت الأنظار على بئر قانا 31/1 في الرقعة الرقم «9»، إذ أشارت المعطيات اليومية لأعمال الحفر الاستكشافي الأول إلى نتائج إيجابية. وعلى أثر هذه المؤشرات، استعدّ مشغل الرقعة «9» لإرسال مزيد من الطواقم التشغيلية لدعم المرحلة المقبلة. وفي ظل هذه التوقعات الواعدة، رفعت هيئة إدارة قطاع البترول توصياتها الى مجلس الوزراء بفتح دورة تراخيص ثانية تشمل الرقع الجنوبية، وعلى رأسها بلوك «8» و«10»، مستندةً إلى المؤشرات الإيجابية المسجّلة آنذاك.

وقبل يومَين فقط من اندلاع حرب غزة، قلبَ المشغّل المعادلة فجأةً: أعلن توقف الحفر في الرقعة «9»، متذرّعاً بعدم التوصّل إلى جدوى تجارية. وتحوّلت تصريحات وزير الطاقة السابق، التي بشّرت اللبنانيين بـ«أخبارٍ مبشّرة»، إلى صدى خاوٍ. البحر الذي كان رمزاً للأمل والثروة، صار مرآةً صامتة للغموض والفشل، فيما الحُلم الوطني يغرق بلا إنذار.

على رغم من ذلك، وفي كانون الأول 2023، قرّر مجلس الوزراء إطلاق دورة التراخيص الثانية، مستنداً إلى توصيات هيئة إدارة القطاع الصادرة قبل إعلان المشغل عن فشل الحفر. القرار لم يُبنَ على الاعتبارات القانونية أو الاقتصادية، بل على «الخَوف» السياسي من التراجع، وكأنّ أي توقف عن التحرّك نحو البحر يعني هزيمة أمام الخارج. أرادت الدولة أن تبدو وكأنّها تتحرّك أمام المجتمع الدولي، حتى لو كان تحرّكها قائماً على أسس مهزوزة وبيانات فاقدة لقيمتها.

وبالفعل، فُتِحت دورة التراخيص الثانية، لتشمل الرقعتَين «8» و«10». في ظلّ الغليان الإقليمي وانعدام أي بيئة استثمارية جاذبة، لم يتقدّم أحد للمزايدة، كما كان متوقعاً. لكنّ المفاجأة جاءت حين قدّم الكونسورتيوم المشغّل للرقعتَين «4» و«9» طلبه الوحيد قبل ساعة من إغلاق باب المزايدة على الرقعتَين «8» و«10». وعلى رغم من وضوح القانون في اشتراط وجود طلبَين على الأقل على كل رقعة لضمان التنافسية، تجاهلت الدولة النصّ، وقبلت الطلب الفردي، كما حدث سابقاً مع الرقعتَين «4» و«9».

ولأنّنا اعتدنا في لبنان أن تُخرس القوانين تحت راية السياسة، بحجة «مقتضيات الضرورة والمصلحة العامة»، وافق مجلس الوزراء على الطلب الوحيد على كل رقعة، على رغم من العَيب الشكلي الجوهري الذي كان يُلزم بإلغاء دورة التراخيص، ومع ذلك لم يُوقّع «الكونسورتيوم» الاتفاق النهائي.

فالمفاوضات تعثرت، والمواعيد القانونية انقضت، وأُعيد إدراج الرقعتَين «8» و«10» في دورة التراخيص الثالثة. ومع أنّ هذا يعني عملياً انتهاء صلاحية العرض، فإنّ المشهد انقلب مجدّداً، حين قرّر مجلس الوزراء فجأةً في الأمس الموافقة على توقيع إتفاقية الإستكشاف والإنتاج مع «الكونسورتيوم» مقدّم الطلب على الرقعة «8»، استناداً إلى عرض انتهت صلاحياته منذ أكثر من سنة.

وفي محاولة لحفظ ماء وجه القرار، أشارت حيثياته إلى أنّ الهيئة في توصياتها استندت إلى القانون رقم 328 لعام 2024، المتعلّق بتعليق المهل القانونية العقدية والقضائية، كأنّها تحاول إلباس الواقع المتهالك قناع شرعية على وجهٍ هامد. ولو كان هذا التبرير صائباً، لما أعيد إدراج الرقعة «8» ضمن الدورة الثالثة أصلاً. وحتى لو افترضنا صحة تعليق المهل، فإنّ المهل المخوَّلة لتوقيع الاتفاقية قد انتهت بالفعل.

إنّها معادلة لبنانية خالصة: القانون موجود حين يخدم القرار، ويُعلّق حين يقف في طريقه.

اليوم، ما يجري في الرقعة «8» ليس سوى فصلٍ جديد من دراما الخضوع السياسي. الدولة لم تعُد تتخذ قراراتها لحماية مصالحها، بل لتجنّب الصدام مع الخارج. والخَوف من الغضب الإقليمي صار أقوى من النصوص القانونية نفسها.

هكذا، تُدار الرقعة «8» بالرهبة لا بالحكمة، وبالرسائل لا بالقوانين. السلطة تسعى إلى إنجازٍ إعلاميٍّ سريع، حتى لو كان مجرّد فقاعة على سطح البحر، لتغطية فراغٍ داخليٍّ عميق. بينما المؤسسات تكتفي بدور المراقب الخائف، تراقب الموج ولا تجرؤ على الغَوص في عمقه. إنّ الرقعة «8» اليوم هي مرآةٌ لما وصل إليه لبنان: دولةٌ تتآكل من أطرافها كما يصدأ الحديد في الملوحة، حكومةٌ تخاف الغضب أكثر ممّا تطلب الحق، وقانونٌ يتحلّل في ملوحة السياسة حتى بات أشبه بورقٍ مبلولٍ لا يُقرأ.

إنّ الرقعة «8» ليست مجرّد مشروع بترولي، بل غدت شهادة وفاة أنيقة لسيادة وطنية كانت يوماً فخر البلاد. توقيع الاتفاق لا يمثل إنجازاً، بل إعلاناً صارخاً لموت القانون. حين تُدار الدولة بالخوف، يُصبح البحر مقبرةً للشرعية، وتتحوّل الرقعة «8» شاهدة على عجز المؤسسات، لتصطف إلى جانب مثيلاتها من الرقع «4» و«9» تحت حكم وقف التنفيذ. كيف لا، وهي تُدار وفق مزاج «كونسورتيوم» أثبتت التجربة بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ قرار إستثماره سياسي إقليمي بامتياز.

في هذه المنطقة، لا شيء يحدث مصادفة. البحر لا يتحرّك وحده، والمَوج لا يتبدّل بلا سبب. خلف كل تموّج على السطح، تتلاعب مصالح عميقة تديرها عواصم القرار الإقليمي والدولي. الرقعة «8» ليست مجرّد مساحة بحرية: إنّها البوابة الخفية التي تفصل بين الثروة والسيادة، بين الغاز اللبناني والغاز «الإسرائيلي»، وعالم من النفوذ والقرارات التي لا تُرى. ما ستكشفه الأيام المقبلة عن هذه الرقعة ليس مجرّد قصة بترول، بل فصل كامل من النزاع على ثروة لبنان. وهو الفصل الذي سنغوص فيه الأسبوع المقبل.

مصدرالجمهورية - خديجة رياض حَكيم
المادة السابقةأوروبا في مهمة معقدة لمواجهة زيادة الواردات الصينية
المقالة القادمةتوتال تفرض إيقاعها: بلوك رقم 8 هدية أخرى لإسرائيل؟