السلطة تروّج لـ«الأفكار الخلّاقة» لإصلاح نموذجها الفاشل: الإصلاح الضريبي ليس تقنياً

حين صرّح وزير الإعلام بول مرقص إثر جلسة وزارية أنّ موازنة عام 2026 ستتضمّن «أفكاراً خلّاقة» لتأمين إيرادات جديدة من دون زيادة الأعباء على المواطنين، بدت العبارة خارج السياق. فهل المقصود بهذه العبارة التدليل على الرغبة في استعادة كفاءة عمل «نموذج العمل» القائم على رؤية محاسبية، أم إعادة نظر جذرية في بنية السياسات الضريبية القائمة على «اللاعدالة»؟

استمرار اللاعدالة
منذ عقود، كانت السياسات الضريبية في لبنان وسيلة للجباية بدلاً من أن تكون أداة للعدالة وإعادة توزيع الدخل. صُمّمت هذه السياسات ضمن مقاربات محاسبية، ما أدّى إلى إغراق الطبقات الوسطى والفقيرة بضرائب ورسوم تستنزف مداخيلها، ثم جاء الانهيار المصرفي والنقدي ليضع عبئاً أكبر على هذه الفئات عبر ضريبة غير منصوص عنها قانوناً وهي ضريبة التضخّم التي أكلت الأجور والمدخرات.

ويأتي ذلك رغم أن النظام الضريبي في لبنان يفتح المجال لتدفق الأرباح بنسبة هائلة على «الكبار». فهو نظام يتّسم، كما ورد في ورقة أعدّها مجموعة خبراء في 2021 (ليديا أسود، ألان بيفاني، كريم ضاهر، اسحق ديوان) بعنوان «ما هي السياسات الضريبية التي ينبغي اعتمادها في لبنان؟ دروس من الماضي لمواجهة تحديات المستقبل»، بـ«انعدام العدالة، ما أتاح «لأصحاب المداخيل الأكبر التهرّب من تسديد الضريبة»، وهو أيضاً «غير فعال ما انعكس تراجعاً في الإيرادات».

باختصار رأت الورقة أنه «نظام عقيم بقاعدته الضيّقة وثغراته الكبيرة، لذا يحتاج إلى إعادة هيكلة. وبدلاً من ذلك، قرّرت الحكومة التي تزعم أنها تشكّلت في سياق عملية تغيير واسعة، أن تُبقي الوضع على ما هو عليه من تشوّهات وثغرات. وجاءت ترجمة ذلك في مشروع موازنة 2026 الذي نوقش في مجلس الوزراء وقال عنه وزير الإعلام بول مرقص، إثر جلسة 11 أيلول، إنه يتضمن «أفكاراً خلّاقة» لتأمين الإيرادات من دون زيادة الأعباء.

بمعنى آخر كان المقصود أن «الأفكار الخلاقة» هي تعبير عن استمرار اللاعدالة والتشوّهات التي تغذّت على تبعات الانهيار. ومن أبرز دلالات هذه التشوّهات، أن الضرائب غير المباشرة تمثّل الوزن الأكبر من الإيرادات الضريبية بحصّة 77% قبل الحرب اللبنانية، ثم صارت الآن تزيد على 80%، وأن الضرائب والرسوم على الأجور كانت توازي نصف الضرائب على الأرباح ثم صارت اليوم تتجاوزها!

المطلوب إرادة سياسية
إنّ أي نقاش جدي حول الموازنة لا يمكن فصله عن الإطار القانوني الذي تُدار فيه المالية العامة. فقانون المحاسبة العمومية، الذي يحدّد كيفية إعداد الموازنة وتنفيذها ومراقبتها، يعود إلى عام 1967 الذي لم يُحدّث منذ ذلك الحين.

وبحسب الخبير الاقتصادي سمير الضاهر، فإنّ غياب التحديث في القانون المالي يعني عملياً غياب الرؤية الاقتصادية، لأن الموازنة تُبنى على قواعد محاسبية قديمة لا تعبّر عن واقع الاقتصاد الحالي. ومن أبرز الإصلاحات المقترحة، والمهملة في الوقت نفسه، مشروع الضريبة الموحدة على الدخل.

وفقاً للضاهر، فإنّ الغاية من جمع كل مصادر الدخل (أجور، إيجارات، أرباح، فوائد) في وعاء واحد، وإخضاعها لضريبة تصاعدية، ليس فقط توحيد المعدلات، بل أيضاً تصحيح التشوّه الاقتصادي الذي جعل الرساميل تتكدّس في المصارف بدلاً من أن تُستثمر في القطاعات المنتجة. ففيما كانت الضريبة على فوائد الودائع 7% فقط، خضعت أرباح الشركات لنسب أعلى بكثير، ما جعل الإيداع في المصارف أكثر ربحاً وأقل مخاطرة من الاستثمار في الإنتاج.

«العدالة الضريبية ليست شعاراً بل أداةٌ لتحريك الاقتصاد الحقيقي» يقول الضاهر. فالمطلوب إرادة سياسية واضحة لضبط التهرّب الواسع الذي جعل لبنان «فردوساً للتهرّب الضريبي».

الإصلاح لا يكفي
هل يكفي الإصلاح وحده؟ في رأي رئيس المركز الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله، فإن لبنان «يعيش مرحلة إنقاذ مالي ونقدي، أكثر مما يعيش مرحلة إصلاح شامل».

يعتقد أنه يجب أولاً «استعادة قدرة الدولة على الصمود عبر خطة توازن قصيرة الأمد تُعيد إلى الدولة قدرتها على التحصيل وتُوقف النزيف».

لكن هذا الأمر لا يجب أن يخلق انحرافاً عن الهدف الاجتماعي للإصلاح المالي «فالضريبة، في جوهرها، أداة لتقليص الفوارق بين الطبقات عبر تمويل منظومات الرعاية والضمان والتقاعد».

وبهذا المعنى، فإن «تحسين أوضاع موظفي القطاع العام ليس عبئاً بل ضرورةٌ لرفع كفاءة الدولة نفسها. ويرى فضل الله أنّ الإصلاحات الجزئية السابقة، رغم طابعها التصاعدي، بقيت بلا أثر فعلي لأنّها لم تُطبّق. «في مشروع موازنة 2026 مثلاً، انخفضت إيرادات ضريبة الأرباح إلى الثلث، بينما تضاعفت ضرائب الرواتب ثلاث مرات، دلالة واضحة على تراجع العدالة الضريبية بدل تقدمها».

أي مشروع؟
وحين ننتقل من تفاصيل النظام الضريبي إلى جذره، يتبيّن أن المسألة ليست نسباً أو شرائح فقط، بل منظومة فكرية واقتصادية. فلبنان، منذ الثمانينيات، لم يبنِ دولته على قاعدة الإنتاج، بل على قاعدة الارتهان للخارج والعيش على تحويلاته.

وكانت البلاد تُموَّل بالعملة الأجنبية من المغتربين، وبالديون من المانحين، وبالإنفاق السياسي الذي عُرف باسم «شراء السلم الأهلي بالدين».

يقول الوزير السابق شربل نحّاس إنّ أيّ نقاش بشأن «الإصلاح الضريبي» لا يمكن أن ينفصل عن تشخيص واقعي وجريء للمرحلة التي يعيشها لبنان، لأنّ الضريبة، في رأيه «ليست مجرد أداة مالية بل نظام سياسي واقتصادي كامل»، ولأن ما حصل في لبنان «ليس أزمة تقنية بل نتاج خيارات تأسّست في الثمانينيات وترسّخت في التسعينيات».

في ذلك الوقت، قام البلد على مبدأين: «تشكّل سياسي للطوائف كمجتمعات مستقلة داخل الدولة، واعتماد نموذج اقتصادي يقوم على قاعدة (منجيب مصاري من برّا)».

النموذج الثاني، كما يشرح نحاس، بدأ حين ارتفعت أسعار النفط وازدادت تحويلات المغتربين، ثم تمأسس مع انتهاء الحرب الأهلية عبر رهانٍ على «السلم الأهلي المموّل»، أي شراء الاستقرار عبر الإنفاق العام والدين، وذلك «على أساس أنّ كلفته ستتبخّر لاحقاً مع السلام الإقليمي والشرق الأوسط الجديد».

لكن السلطة «استطاعت تمديد عمر هذه اللعبة عشرين عاماً إضافية عبر هندسات مالية» يصفها نحاس بـ«شطارة استثنائية»، أسهمت في تأجيل السقوط «إلى أن وجد البلد نفسه يعيش على قدرة استهلاك تفوق إنتاجه الفعلي بنسبة تُراوح بين 50% و60%». ومع انهيار هذا النموذج، صارت التحويلات من الخارج ترفع كلفة المعيشة وكلفة الإنتاج في آنٍ معاً، فتحوّل البلد إلى «أوتيل»، ما يبرر غلاء الأسعار، بلا قدرة إنتاجية حقيقية.

من هنا، يرى نحّاس أنّ «الإصلاح الضريبي» الذي يُرفع اليوم شعاراً، لا يمكن أن يكون تصحيحاً تقنياً للأرقام، بل مشروع لإعادة بناء الدولة نفسها على أسس جديدة: «إنتاج بدلاً من الارتهان، وعدالة بدلاً من الزبائنية، ونظام ضريبي يوزّع الأعباء لا يحمي الامتيازات».

ويرى أنّ مواجهة الأزمة لا تكون عبر التمسّك بالمصطلحات مثل «إصلاح» و«تعافٍ»، بل عبر الاعتراف بأنّ الحقبة السابقة انتهت بكل مقوّماتها. لأنّ الدولة، في النهاية، لا تُدار بالشعارات، بل بإدارة الموارد البشرية والمادية. فما نحتاجه اليوم «ليس تعافياً ولا إصلاحاً بالمفهوم التقني، بل خروجٌ من حقبة تاريخية انتهت».

مصدرجريدة الأخبار - زينب بزي
المادة السابقةتمديد براءة الذمّة لـ«ألفا» و«تاتش»: التواطؤ على إيرادات الضمان
المقالة القادمةمن “خصم 70%” إلى سرقة كاملة: هكذا يُخدع اللبنانيون يومياً