أودّ أن أرحب بالإخوة والأخوات في الإعلام والأصدقاء الذين يحضرون هذا المؤتمر، وأن أشكر جميع اللبنانيين والعرب الذين يعبّرون عن اهتمامهم بمتابعة هذاالمؤتمر على شاشات التلفزة.
سأتناول في حديثي حسابات المالية العامة، وتحديداًموضوع الأحد عشر مليار دولار،وهي وكما سنبينه في هذا المؤتمر، أنها أنفقت جميعها بما يتفق مع الأصول وأحكام الدستور والقوانين المالية، وبما يؤمن تسيير المرافق العامة وتلبية حاجات الدولة والمواطنين. وهي التي أراد مطلقو الشائعات المغرضة وحملات التجني والتشهير، وعن سابق إصرار وتصميم، إشغال الناس والتهويل عليهم وحرف انتباههم عن متابعة القضايا الأساسية، وبالتالي ضمان عدم خوض المواطنين المعركة الحقيقية ضد الفساد. وبعد ذلك سيتم تسليط الضوء على أهمية التصدي الفعلي للفساد، لأنتقل بعدها لأبيّن الحاجة الماسة لإعادة الاعتبار للدولة اللبنانية واسترجاع سلطتها على كافة مرافقها ومؤسساتها وترابها.
لا يمكن لي الحديث عن وزارة المالية والمالية العامة دون تذكير الجميع بما كان عليه الوضع في نهاية العام 1992، أي مع وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري لرئاسة الحكومة. لقد كان وضع وزارة المالية حينها مأساوياً بأبنيتها المدمرة والمحروقة وأجهزتها وتجهيزاتها المعطّلة أو التي عفا عليها الزمن، وعلى ملفاتها ومستنداتها المحروقة والبالية والمفقودة بسبب التنقل المستمر وسوء الحفظ وبسبب التقادم.ودلالة بسيطة على هولتلك المشكلات، فإنه يكفي القول إنّه لم تكن لدى الوزارة في معظم مكاتبهاآلات الحساب البسيطة. إذ ما زلت أذكر أني رأيت وبأم العين كيف أن المحاسب المركزي لوزارة المالية،كان يقوم بحساباتالخزينة مستعملاً ما قد نسيه معظمكم أو لم يسمع به، أي جدول الضرب الشهير، لافتقاده لآلة حاسبة عادية.
1- إعداد الموازنات العامة وقطوعات الحساب:
بسبب الحربالطويلة، توقفت وزارة المالية عن إعداد قطوع حسابات الموازنة وحساب الخزينة أو المهمة منذ العام 1979 ولغاية سنة 1992، أي لمدة ثلاث عشرة سنة. لذلكونظراً لفقدان كثير من المستنداتعن الأعوام 1992 وما قبلها رجوعاً إلى العام 1979، ولم يكن أمام مجلس النواب إلاّ أن يصدر قانوناً لصرف النظر عن إعداد حسابات السنوات 1990 وما قبل. وبعد ذلك الوقت، صدر قانون لصرف النظر عن إعداد حسابات العامين 1991- 1992.وقد ترافق ذلكمع العودة الواثقة إلى إعادة الانتظام لإعداد الموازنات العامة وإقرارها في مواعيدها الدستورية حتى العام 2005، وكذلك البدء بإعداد قطوع الحسابات للأعوام 1993 وما بعدها وصولاً للعام 2003، وهي السنوات التي كان فيها الرئيس رفيق الحريري رئيساً للوزراء وكنت أتولى فيها وزارة المالية.وبناءً على ذلك، فقد أقرّ مجلس النواب قوانين قطوع الحسابات لتلك السنوات الأحد عشر بشكل منتظم وتوقف الأمر بعد ذلك.
2- القيود الافتتاحية:
بالنسبة للقيود الافتتاحية لكل من قطع الحساب ولحساب المهمة، فإنّ من لديه الحد الأدنى من المعرفة بعلم المحاسبة يعلم أنه لمعرفة القيود الافتتاحية لسنة معيّنة، فإنه يجب أن تتوافر لديه القيود الختامية للسنة السابقة، وهذا يعني معرفة حسابات تلك السنة السابقة أي عام 1992 وقبلها العام 1991 وهكذا دواليك رجوعاً إلى العام 1979، وذلك كان أمراً مستحيلاً، وهو ما اوضحناه سابقاً.
ما فعلناه لمعالجة تلك المشكلة هو التثبت من الأرصدة النقدية في صناديق المالية ولدى المحتسبين وفي البنك المركزي وطلبنا من مؤسستين عالميتين للتدقيقالتأكد من ذلك عبر مراسلة جميع المصارف الموجودة في لبنان وتلك التي كان من الممكن أن يكون لوزارة المالية تعامل محتمل معها في الخارج لتثبيت الأرصدة. وهكذا بدأنا بما هو مُتاح في حينه من معلومات، بما يعني أنّ المحاسبة العامة في وزارة المالية، قد بدأت بوضع الحسابات عن عام 1993 بوجود الأرصدة الافتتاحية التي تمّ التثبّت منها وليس بأصفار. وذلك كان القرار الصحيح والعلمي.
تجدر الإشارة، إلى أنّ آليةً قانونية قد وُضعتفي العام 2006 في قانون موازنة العام 2005، لبتّ تلك المسائل المعلقة في موضوع القيود الافتتاحية.
إلاّ أنّه قام البعض في العام 2012، وعن عدم معرفة وقلّة تبصر وآخرون وعن سوء نية،بإطلاقفقاعة الحسابات الافتتاحية برغم علمه أنه قد جرى التثبت من الأرصدة النقدية الافتتاحية للوزارة في مطلع العام1993 وعبر جميع الوسائل الممكنة، لا لشيء إلاّلاختلاق مشكلة على الرغم من أنّ المادة القانونية التي صدرت في موازنة العام 2005 قد أقرّت الآلية اللازمة لمعالجة تلك المسألة، ولم يكن هناك من طريقة أخرى لمعالجتها. وهذا البعض قد عمل على التهويل بهذه المسألة لإيهام اللبنانيين بغير الحقيقة. وكان من نتيجة ذلك كلّه تعطيل إقرار الموازنات العامة ابتداءً من العام 2006 وحتى العام 2016، أي لأحد عشر عاماً على التوالي، وأوقع الاقتصاد اللبناني والمالية العامة وصدقية الدولة اللبنانية في منزلق خطير، مازلنا وحتى الآن ندفع ثمنه الباهظ والمكلف.
تجدر الإشارة هنا، أنّ الموازنات العامة العائدة للأعوام 1979-1985 و1990-1992 قد صدرت دون أن يكون هناك قطع حساب لجميع تلك السنوات ودون أن تكون هناك حسابات مهمة (يراجع الجدول رقم واحد المرفق: تاريخ إحالة وتاريخ إقرار مشاريع قوانين الموازنات العامة في مجلس النواب وتواريخ تقديم وإقرار قطوع الحسابات وتواريخ إعداد وإحالة حسابات المهمة إلى ديوان المحاسبة أو مديرية المحاسبة في وزارة المالية عن السنوات 1979- 2018).
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ ديوان المحاسبة لم يقم بإجراء الرقابة اللاحقة اللازمة على تلك السنوات 1979-1992 ولا على السنوات اللاحقة بالرغم أنه كان بإمكانه ان يبادر إلى إجراء الرقابة اللاحقة، وذلك بداية من قطع حساب موازنة العام 1993، أي منذ الفترة التي بدأت فيها حكومة الحريري الأولى وبدأت فيها مسؤوليتي في وزارة المالية.
في العام 2006 بادرتْ، حكومتي الأولى، وانطلاقاً من حرصنا على تعزيز الشفافية والإفصاح والانضباط في المالية العامة وفي حساباتها، ومن دون المسّ بصلاحية ديوان المحاسبةفي إجراء الرقابة اللاحقة على قطوع الحساباتإلى الإحالة على مجلس النواب مشروع قانون بالمرسوم رقم 17053 تاريخ 25/05/2006 يتضمن تعيين مؤسسات رقابة تتمتع بالصدقية الدولية لتدقيق حسابات مالية الدولة اللبنانية وجميع إداراتها ومؤسساتها العامة منذ العام 1989 أي منذ اتفاق الطائفوعلى أن يستمر عمل مؤسسات التدقيقبعد ذلك ليشمل جميع السنوات اللاحقة.
إنّ المبادرة لإحالة مشروعالقانون المذكور، ومنذ ذلك التاريخ يؤكد ويثبت موقفنا الجازم بأنّه ليس من المقبول على الإطلاق أن تكون على رأس أحدهم خيمة تحميه من الرقابة اللاحقة أو أن يكون فوق القانون. كما أنه يؤكد على إيماننا والتزامنا بمبادئ الإصلاح والنهوض وبقواعد الشفافية والإفصاح والحيادية والموضوعية في عمل الدولةدون أي تعمية، وذلك على النسق الذي تعتمده دول عريقة في الديمقراطية والشفافية، وهي المبادئ والقواعدالتي لطالما دعونا إليها وحرصنا على تبنيها. وأنا صاحبُ ذلك المثل الشعبي المعدَّل الذي لم أتوقف عن التأكيد عليه: “أعط الخبز للخباز وراقبْهُ حتى ما ياكل نصّه”.
هذا المشروع ما يزال نائماً في أدراج المجلس النيابي. وإنّ أياً من النواب المحترمين الذين نصّبوا أنفسهم نظاراً للحسبة لم يعيروهالتفاتاً، وذلك عن سابق قصد،لأنّ الأرقام تدحض الأوهام، والدليل القوي يرد الافتراءات إلى جحورها، ويُفقد هؤلاء منابر الوعظ الكاذب التي احترفوا اعتلاءها.
إنّ عملمؤسسات التدقيق الدولية ضروري لاستمرار عمل إدارات الدولة ومؤسساتها بحياديةبعيداً عن الغرضية والتسييس أو التوظيف السياسي من قِبل أي فريق سياسي لمصلحته من أجل الاقتصاص من الآخرين. علماً أنّ عمل مؤسسات التدقيق المتخصصة ليست بديلاً عن قيام ديوان المحاسبة بوظيفته فيما خصّ الرقابة اللاحقة، والتييُفترض بها أن تكون هي مهمته الأساسية. وهو الدور الذي لم يقم به الديوان منذ عقود طويلة وطويلة جداً ولاسيما فيما خصّ مسألة قطع الحساب للموازنة العامة للدولة ولحسابات المهمة.
لم نكتف بذلك،فلقد عاد تيار المستقبل مع عدد من النواب إلى التأكيد على اقتراح اعتماد أسلوب التدقيق الماليمن خلال التقدم باقتراح إجراء تحقيق برلماني حول الاتهامات المتبادلة بشأن الفساد والمقدم من عدد من النواب وهم: بطرس حرب، عمار حوري، أنطوان زهرا، نائلة معوض، أغوب قصارجيان ومروان حمادة، وذلك بتاريخ 17/12/2008. ثم بعد ذلك، تقدم النائب جمال جراح بتاريخ 10/5/2012باقتراح إنشاء لجنة تحقيق برلمانية تتولى التحقيق في حسابات الدولة العامة.
أودّ هنا أن أركز هنا على مسألة حيادية الدولة في علاقتها مع جميع الفرقاء السياسيين وذلك بعد التجربة المريرة التي مررنا بها ومرّ بها لبنان قبل عشرين عاماً بشأن ما سمي بفضيحة محرقة برج حمود، وهي قضية كانت قد حصلت في العام 1987 أي قبل خمس سنوات من حكومة الحريري ومن تاريخ تسلمي لمسؤولية وزارة المالية.
إننا نستشبه في هذه الأيام شيئاً مماثلاً لما جرى في تلك الازمة قبل عشرين عاماً. إذ جرى في حينها تلفيق تهمة لي بتورطي في مسألة محرقة برج حمود مع أني أنا الوحيد الذي وقفت ضدّ تسوية هذه المسألة الشائكة في مجلس الوزراء وكذلك في مجلس النواب. ولكنّ النظام الأمني آنذاك لفّق التهم، وفبرك الملفات المزورة، وعمد إلى استخدام القضاء وتسخيره لخدمة أغراضه، وكذلك عمد إلى استخدام وتحريض بعض الصحافة الصفراء لتوجيه الاتهامات والتهديد بالتوقيف والسجن والتهويل على الرئيس رفيق الحريري وعلى. ولقد عاش لبنان كلّه على وهج تلك الاتهامات الباطلة ولعدة أعوام، وها نحن نسمع في هذه الأيام كمّاً كبيراً من الضجيج المماثل لما كنا نسمعه من قبل. والمصيبة المحزنة أنه بالرغم من أنّ المجلس النيابي قد حسم تلك الاتهامات الباطلة بشأن محرقة برج حمود منذ سنوات طويلة، إلاّ أنّ الصحافة الصفراء مازالت وحتى منذ عدة أيام تعيد النفخ في ذلك الجمر الكاذب وكل ذلك ينذر بشر مستطير.
III- مسألة الأحد عشر مليار دولار:
تحدث دولة الرئيس نبيه بري بتاريخ 02/06/2010 وهو خارج من قصر بعبدا، قائلاً: هناك مبلغ 11 مليار دولار تمّ إنفاقها من دون أن نعرف كيف.وهي مسألة تتعلق بالقاعدة الاثني عشرية للإنفاق والمتعلقة بمجموع الإنفاق الحاصل لدى الحكومتين اللتين ترأستُهما على مدى السنوات 2006- 2009. وهو قد قال:إنّ مجموع الإنفاق خلال السنوات الاربع 2006- 2009 تخطى المجموع المسموح به على أساس القاعدة الإثني عشرية بمبلغ أحد عشر مليار دولار، مما أوحى بأنه إنفاق أموال بشكل غير قانوني أو أنها أموال جرى تبديدها، وبالتالي التهويل على اللبنانيين وإيهامهم بأنّ الفساد هو في هذه القضية المختَلَقَة بينما الفساد في الواقع هو في مكانٍ آخر.
لقد كان في ذلك القول اجتزاء للحقيقة أو عدم قول الحقيقة بكاملها حيث جرى الخلط بين الإنفاق من حساب الموازنة، والإنفاق من حساب الخزينة. وهو ما أدى إلى ذلك الالتباس الكبير وأسهم في إلحاق الضرر بالمالية العامة للبنان والمس بصدقيتها وصدقية الدولة اللبنانية من خلال التشكيك بها. ولقد جرى توضيح ذلك الأمر من خلال البيانات والمؤتمرات الصحافية والبيانات والشروحات العديدة التي قُدِّمَتْ في هذا الصدد،ولكن استمر المغرضون في غِيِّهم وضلالهم لأغراض سياسية ولتشويه السمعة بالرغم من كل البراهين والإثباتات الدامغة التي قُدِّمت.
بعد ذلك، وفي شهر شباط من العام 2013 أصدر التيار الوطني الحر كتاباً تحت عنوان: “الإبراء المستحيل” تناول فيه أيضاً هذه المسألة وخاض فيها ومن غير علم، وعَمِلَتْكثير من الأبواق والأجهزة للتطبيل والتزمير لهذا الأمر لتشويه السمعة وصرف الانتباه عن المرتكبين الفعليين للفساد والمسؤولين عن تبديد المال العام، ومايزال من كان وراء إصدار هذا الكتاب مستمراً وممعناً في غيِّه.ورداً على ذلك الكتاب، فقد أصدرت كتلة المستقبل النيابية كتاباً تحت عنوان: “الافتراء في كتاب الإبراء” تدحض فيه تلك الافتراءات.
إنه ولمقاربة هذه المسألة بشكل واضح ومبسط لا بدّ من استعراض الشائعات والتساؤلات التي طرحها البعض ومن ثم الإجابة عليها عبر طرح الأسئلة التالية والإجابة عليها:
1) هل صحيح أنّ الحكومة قد تخطت حدود القاعدة الإثني عشرية للإنفاق؟
2) هل صحيح أنّ هناك مبالغ قيمتها ما يعادل 11 مليار دولار أميركي ضائعة أو مسلوبة أو مسروقة؟
3) هل صحيح ان ليس هناك من مستندات ثبوتية للإنفاق الحاصل في السنوات 2006- 2009؟
4) هل صحيح أن هناك تجاوزاً أو مخالفةً للقواعد المنصوص عنها في قانون المحاسبة العامة بما يتعلق بالإنفاق وأصوله؟
5) هل صحيح أنه قد جرى تخطي حدود صلاحيات الحكومة؟
6) هل صحيح أنّ الحكومة في تلك السنوات لم تُعِدّ الموازنات العامة للسنوات 2006- 2009 ولم ترسلها إلى المجلس النيابي وأنه قد جرى تخطي حدود الإنفاق الجاري الملزِم للحكومة؟
الحقيقة أنّه وفي حمأة ذلك الكباش السياسي المحتقن، فقد قام البعضبإجراء مقارنة بسيطة بين مجموع موازنة العام 2005، بالنسبة لحجم الإنفاق المصرّح به وهو عشرة آلاف مليار ليرة مضروباً أربع مرات للسنوات 2006-2009وهي أربع سنوات. وهم قاموا بذلك بسبب عدم إقرار الموازنات العامة لتلك السنوات والتي كانت الحكومة قد أنجزتها وأرسلتها كمشاريع قوانين إلى المجلس النيابي. إلاّ أنّ مجلس النواب لم يتسلمها بسبب الإقفال القسري للمجلس. وذلك مما يجعل مجموع الإنفاق المصرَّح به للسنوات الأربع من حساب الموازنة وحسب القاعدة الإثني عشرية أربعين ألف مليار ليرة لبنانية.
وتبدأ المشكلة من هنا لأنّ القاعدة الإثني عشرية لا تنطبق على واقع الحال لأربع سنوات لاحقة، إذ إنها أساساً ووفق الدستور اللبناني، هي قد وُضعت لتؤدي غرضها لشهر واحد وهو كانون الثاني حصراً من سنة الموازنة الجديدة، وذلك من أجل تسيير أمور الدولة وريثما يتم إقرار قانون الموازنة. وبالتالي لا يصح الاستناد إلى هذه القاعدة واعتمادها لأربع سنوات متتالية بالرغم منتغير مقتضيات الإنفاق وتغير الأحوال وتغير حجم الالتزامات على الدولة اللبنانية التي تضخمت احتياجاتها تدريجياً لتصبح الآن في حدود خمس وعشرين ألف مليار ليرة لبنانية سنوياً وليس فقط عشرة آلاف مليار ليرة. ومن ثمّ فإنّ هذه القاعدة الإثني عشرية لا تعود قاعدة يمكن الاستناد إليها. ولذلك فإنها لم تعد تشكّل المسطرة التي يمكن أن تُقاس الأمور بها. وبالتالي فإنّ الكلام عنها يصبح في غير محله على الإطلاق ويصبح بالتالي الحديث عن تطبيقها بتكرار ذات المبلغ أربع مرات لأربع سنوات هو من قبيل الهرطقة المالية والقانونية والسياسية خاصة وعندما يختل التوازن في بنية الدولة والمؤسسات والأنظمة. وعند ذلك فإنّ القاعدة المستقرة هي في العودة إلى مبدأ ضرورة تسيير المرفق العام وخدمة مصالح المواطنين. والسؤال هنا: هل الإنفاق الذي جرى في تلك السنوات الأربع وفي فترة الحرب الإسرائيلية وارتفاع معدلات الفائدة وزيادة الدين العام وارتفاع أسعار النفط وزيادة الرواتب والأجور يقع تحت باب التوقع الإثني عشري؟ سؤال جدير بالإجابة عليه، أليس كذلك؟!
ومع ذلك فهم ارتكبوا الخطأ الثاني إذ عمدوا لمقارنة ذلك المجموع ليس مع مجموع الموازنة فقط ولكن مع مجموع ما جرى إنفاقه وفق الارقام الصادرة عن وزارة الماليةمن اعتمادات الموازنة وحسابات الخزينة في تلك السنوات والبالغ 56590 مليار ليرة. ذلك مما يجعل، وبنظر ذلك البعض، المبلغ الإضافي للإنفاق هو 16590 مليار ليرة لبنانية أي ما يعادل أحد عشر مليار دولار أميركي. وبالتالي فقد جرى إطلاق تلك الشائعة المختلقة حول مبلغ الاحد عشرة مليار دولار وذلك حسب ما هو مبين في الجدول رقماثنينالمرفق المستند إلى أرقام الوضعية المالية التي تنشرها وزارة المالية دورياً.
ولقد فات أولئك، بعضهم بحسن نية، وبعضهم الآخر أرادوبسوء نية أن يتغافل عن إدراك وفهم الفرق بين الموازنة والخزينة؟
كل ما ينفق من حساب الموازنة لا بد أن يظهر كإنفاق من حساب الخزينة. ولكن ليس كل ما يظهر في حساب الخزينة موجود في الموازنة وهو إنفاق غير ملحوظ أو لا تلحظه الموازنة. وتفاصيل ذلك كلّه مبين في الجدول رقم ثلاثة الذي يبين ما لم تلحظه الموازنة أو لم تلحظه بشكلٍ كافٍ وإن كانت تلحظه القوانين الخاصة به.
نفقات الخزينة وهي على سبيل المثال لا الحصر:
1- مبالغ تجبى أو تُحصَّل من قبل الخزينة لصالح الغير وتسدد بعد ذلك لأصحابها وبالتالي هي صرف قانوني.
2- الإنفاق على حساب موازنات أو قوانين سابقة كمثل قوانين البرامج الملزمة للدولة وبالتالي هي قانونية وهناك أكثر من 22 قانون برنامج.
3- رديات الضرائب والرسوم وأهمها رديات الضريبة على القيمة المضافة والتي نصت القوانين المعنية على كيفية ردّها.
4- نفقات بموجب سلفات خزينة تعطى لمؤسسات عامة على أن يلحظ لها اعتمادات في موازنة السنة الحالية أو السنة أو السنوات اللاحقة لتسديدها وذلك بنص المرسوم الذي أجاز صرفها، والمستند إلى القوانين المرعية الإجراء.
5- النفقات التي لم تُلْحَظْ لها المبالغ الكافية في الموازنة ولكن نصت القوانين المعنية على إلزامية تأديتها كخدمة الدين العام واستحقاقاته ودفع كلفة عجز مؤسسة كهرباء لبنان.
6- دفع فروقات الرواتب وعلاوة غلاء المعيشة وقد صدرت فيها قوانين.
7- النفقات المواكبة والمكملة لقروض خارجية، وهي تمثل الجزء المحلي من النفقات الاستثمارية والتي يتم إقرارها بموجب قوانين خاصة أقرّها مجلس النواب وتنفق وفق ذات الآلية التي تنص عليها اتفاقية وقوانين القروض التي أجازت ذلك والممتدة على مدى عدة سنوات قادمة.
الجدول رقماثنين يبين كيف تمّ التوصل إلى الرقم 11 مليار دولار، والجدول رقم ثلاثة يبين أبرز البنود التي تفسر تلك الفروقات التي وصل مجموعها إلى حوالي سبعة عشرة ألف مليار ليرة أي ما يعادلأحد عشرة مليار دولار والتي سأشرحها لكم من خلال الجدولين اثنين وثلاثة.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الإنفاق الذي تم، أكان ذلك من اعتمادات الموازنة او من حساب الخزينة وعلى مدى جميع تلك السنوات الأربع لم يكن إنفاقاً مخالفاً للقانون بل كان قانونياً كامل الأوصاف، بموجب قوانين صادرة عن المجلس النيابي. فضلاً عن ذلك، فقد كان الإنفاقيخضع، وقد خضعلذات الأصول ولذات الآليات المنصوص عنها في قانون المحاسبة العمومية والتي تبدأ بالمراقبة والموافقة المسبقة واللاحقة من قبل مراقب عقد النفقات ومن قبل ديوان المحاسبة، إذ كانت تمر عملية التصفية والصرف بمديرية الصرفيات ومديرية الخزينة ومن ثم يتم الدفع عبر مصرف لبنان.
وخلافاً لما يدعيه البعض بأن ذلك الإنفاق غير مدون في حسابات وزارة المالية وان ذلك الإنفاق يفتقر إلى المستندات الثبوتية، فإنّه وعلى عكس ذلك فإنّ عمليات الإنفاق هي مدونة بالكامل في سجلات الوزارات التي قامت بها، إضافة إلى تسجيلها في سجلات وزارة المالية وفي مختلف الوحدات والوزارات التي تعنى بعملية العقد والتصفية والصرف. وان جميع المستندات الثبوتية وقيودها المحاسبية موجودة في وزارة المال، وكذلك في الوزارات المعنية وصولاً إلى مرحلة إعداد قطع الحساب وإعداد حساب المهمة العام.
فلو أنّ تلك النفقات كانت غير مدونة في حسابات وزارة المالية لما استطاعت وزارة المالية تكوين وضعية المالية العامة الشهرية والسنوية، وبالتالي نشر تلك الأرقام على مدى جميع السنوات السبع والعشرين الماضية. وهي الأرقام التي تمّ الاستناد إليها لاحتساب فرق الأحد عشر مليار دولار. المؤسف أن البعض يعمد لتحوير تلك الحقائق وقلبها، وبالتالي اتخاذها منصة لإطلاق تلك الأضاليل والمزاعم.
وبالمناسبة، فإنّ المدير العام للمالية كان موجوداً في موقعه هذا منذ العام 1999 وهو الذي كان ومازال مشرفاً ومسؤولاً وبشكل كامل ومباشر عن كل أمر يمت بصلة إلى مديرية المالية العامة المسؤولة عن مديريات الموازنة والمحاسبة العامة والواردات والصرفيات والخزينة والديوان والضريبة على القيمة المضافة وبالتالي هو الذي ينبغي ان يُسأَلَ عن الحسابات وعن تلك القيود التي أشار إليها أحدهم والذي استشهد بما يقول إنه ورد في تقرير وزير المالية الذي لا نعرف عنه شيئاً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من سرّب له تلك التفاصيل قبل تقديمها إلى مجلس الوزراء، ولذلك يجب أن يُسأَلَ المدير العام للمالية عن كل تلك الأمور التي هي من مسؤوليته المباشرة.
إنّ ما يدلي به البعض من عدم وجود أي مستندات وسجلات لتلك النفقات ما هو إلاّ نكتة سمجة لا يمكن أن يقبلها عقل وهدفها تشويه صورة تلك الحكومات التي تراسها الرئيس الشهيد رفيق الحريري،واللجوء إلى أساليب غير مشروعة وغير صحيحة من أجل النيل من صورته وصورة رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا بعده. والحقيقة أنّ ذلك الادّعاء عارٍ عن الصحة جملة وتفصيلا وما الكلام الذي أدلى به معالي وزير المال محمد الصفدي في حينها وقوله أنّ كل المبالغ مسجّلة في وزارة المال إلاّ خير رد على تلك الأضاليل والافتراءات.
يتبين مما تقدم، الإجابة الواضحة على جميع الأسئلة الستة الواردة أعلاه وعلىعكس ما يريده مطلقو تلك التهم الباطلة: “وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”. والحقيقة المرّة التي تنطبق عليهم هي تلك الآية الكريمة: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ”.
هذه هي الحقيقة الكاملة، ولقد أعددتُ دراسةً كاملةًتشرح هذه المسائل بالتفصيلِ ولسوف أزود بها فخامة الرئيس، وكذلك دولة رئيس الحكومة متمنياً عليه توزيعها على السادة الوزراء، وكذلك بنسخة لدولة رئيس مجلس النواب، متمنياً عليه توزيعها على السادة النواب، واللجان المختصة في المجلس النيابي، كذلك وأزود بها الصحافة والرأي العام لمن يحب ان يتبحر بأصول المالية العامة للدولة اللبنانية ليميز الخبيث من الطيّب.
IV- مسألة الهبات:
أما في موضوع الهبات فإنّ معظم الهبات التي كان يتلقاها لبنان على مرّ السنوات الماضية كانت هبات عينية وهي مسجّلة في محاضر مجلس الوزراء ويمكن استخراجها بسهولة. إلاّ أنه لا يمكن تسجيلها في حساب الموازنة. فاكتساب الموجودات لا يمكن ان يدخل في حساب الموازنة. أودّ أن أسأل هنا من منكم يعرف الفرق بين الموازنة والميزانية؟ الحقيقية هي أنّ معظم اللبنانيين يستعملون العبارتين لوصف ذات الشيء وهذا غير صحيح.
الموازنة هي تصريح بالإنفاق وهو يعني تدفقات مالية للإنفاق لفترة مستقبلية معينة، بينما الميزانية هي مجموع الموجودات والمطلوبات في تاريخ محدد. ولبنان كما هو الحال في جميع دول العالم لا يعد ميزانية للدولة اللبنانية.
أما بالنسبة للهبات النقدية وهي قليلة جداً، ففي الغالبية الساحقة، كان الواهب يحتفظ بها في حسابات يتولى هو فتحها أو تحريكها وإنفاقها،وهي كانت إما لاكتساب موجودات لصالح الدولة أو لتسديد نفقات عنها. وبالتالي لا يمكن لحظ تلك المبالغ في الموازنة ولا يمكن أيضاً إيداع تلك المبالغ في خزينة الدولة اللبنانية، لأنّ الواهب يحتفظ بها في حسابات خاصة ويحتفظ بحق التوقيع عنها وحسب مشيئته. في تلك الحالات لا يمكن بالتالي إخضاع تلك الهبات لذات القواعد والأساليب المعتمدة في الدولة اللبنانية للإنفاق.
خلاف ذلك، فإنّ كل مبلغ أو حوالة مصرفية حصلت عليها الخزينة اللبنانية أو قدمت إلى لبنان في الفترة الماضية، قد جرى إيداعها في البنك المركزي في حساب الخزينة وجاءت بعلم مجلس الوزراء.
أما بالنسبة للعام 2006 وبعد الاجتياح الإسرائيلي، فقد جرى إيداع تلك المبالغ النقدية التيقُدِّمت للبنان وبمعرفة مجلس الوزراء، في حسابات الهيئة العليا للإغاثة في مصرف لبنان، وحيث يوقع على ذلك الحساب المفوضان بالتوقيع عنها وهما رئيس الهيئة العليا للإغاثة ومدير المحاسبة فيها. ولقد كان يتم ذلك وفق آلية فيها الضوابط اللازمة وتتطلب في المحصلة موافقة عدّة أطراف آخرين، وتحديداً مجلس الجنوب في منطقة الجنوب وصندوق المهجرين لباقي المناطق اللبنانية قبل أن يوقع رئيس الهيئة العليا للإغاثة وبالتالي قبل أن يتم الإنفاق. ولقد تمّ اعتماد هذا الأسلوب للإسراع في دفع المبالغ اللازمة للبدء بعملية الإعمار والترميم خلال وبعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006. هل نسوا ذلك؟ يا للعجب!!!
المصيبة المحزنة الماثلة أمامنا أن من يدَّعون تمثيل بعض المواطنين من الذين دمرت أو تضررت منازلهم في حرب تموز 2006 هم الذين ينكرون الآن على الحكومة ما قامت به من جهود مضنية، وهو مسؤوليتها وواجبها، من أجل الإسراع في عودة النازحين اللبنانيين إلى منازلهم وفي الإسراع في دفع التعويضات من أجل تمكينهم من ترميم المنازل وهو ما مكّن الحكومة اللبنانية من تحقيق إنجازغير مسبوق في استعادة الحياة الطبيعية إلى لبنان وبمناطقه كافة ومنها عودة التلامذة إلى مدارسهم في شهر نوفمبر من العام 2006، وبدلاً من أن يقال للحكومة ورئيسها: “الله يعطيكم العافية”، توجه السهام المسمومة لها ولرئيسها. هل هذا شيء يصدق؟!
في هذا الصدد، أودّ أن أقول أنّ جميع تلك المبالغ التي تلقاها لبنان قد أودعت في مصرف لبنان ومعروف كيفية إنفاقها ولمن دُفعت تلك المبالغوهي مسجلةفي حسابات الهيئة العليا للإغاثة، إذ تظهر التقارير الدورية الصادرة عنها كل المعلومات المتعلقة بالإنفاق. ولقد صدر كتاب خاص بذلك أعدّه رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء يحيى رعد.
كذلك فإن تلك المعلومات مبينة أيضاً في حسابات الهيئة لدى مصرف لبنان إذ أنّ كل مبلغ دفع من قبل الهيئة كان بموجب شك يصدر باسم المستفيد الأول وذلك خلافاً لما كان يرغب به الحزب وغيره. ولمن يريد أن يتحقق من ذلك فلديه كل الإمكانية ليتثبت من كل قرشٍ تسلمته الحكومة اللبنانية وكل قرش دُفع للمتضررين.
ولقد لفتني كلام أحدهم عن مبالغ أخرى من الأموال وكأنّ هناك أموالاً أخرى قد منحت للبنان وهي غير ظاهرة في حسابات الهيئة في مصرف لبنان. فليخبرنا من يتحدث عن هذا الموضوع بغير علم من قدّم تلك الأموال، وليسأل تلك الدول عما إذا كانت قد قدمت مبالغ غير ما هو مسجّل في حسابات الهيئة ومصرف لبنان، وأين أودعت. يا للعجب!! وكما يقول المثل العامي: “الكذب على الميتين وليس على الأحياء”.
أيها الإخوة والأخوات،
هذه هي النتيجة من جراء إطلاق الشائعات والأضاليل من قبل أصحاب النوايا السيئة، التي تؤدي في المحصلة إلى الشحناء والبغضاء وإثارة الفتن وعدم الاستقرار. ليس ذلك فقط، بأنها لا تؤدي إلى إيجاد الحلول كمثل هذه المسألة العائدة للأحد عشر مليار دولار التي لم تكن إلاّ عاصفة في فنجان وكان بالإمكان حلّها بالعودة إلى الأصول وبإقرار الموازنات واعتماد المعالجات التي نصّت عليه القوانين.
أيها الإخوة والأخوات،
دعوني أن أستشهد هنا بطرفة كنت قد تحدثت عنها في إحدى جلسات الهيئة العامة لمجلس النواب قبل فترة والتي تقول: إنّ أحدهم، وبينما كان يمشي في أحد شوارع المدينة عقب غروب الشمس، إذا به يصادف رجلاً منحنياً يفتش في الأرض تحت ضوء البلدية. فتوقف عنده ليسأله عما يبحث. فأجابه: بأنه يبحث عن ليرة ذهبية أضاعها. قال له وأين أضعتها؟ فأشار له ذلك الرجل إلى مكان بعيد عن وجودهما وبأنه أضاعها هناك. فقال له: ولماذا تبحث عنها هنا إذاً؟ فردّ عليه قائلاً: لأنه يوجد هنا بعض النور يمكن أن أستضيءَ به، هذا مع إدراك ذلك الرجل بأنه لا يفتش في المكان الصحيح.
هذا يعني أنّ التفتيش عن حلٍّ للمشكلات التي يُعاني منها مجتمعنا اللبناني، ومن ذلك مسألة الفساد، إنما يتمّ البحث بها وعنها بالطريقة وفي المكان الخطأ، وهذا لا يؤدي بنا للوصول إلى الحلول الناجعة والصحيحة لتلك المشكلات ومنها مشكلة الفساد.
لذلك، وتأكيداً على ما ذكرته آنفاً، فإنّه ووضعاً للأمور في نصابها لا بدّ من التأكيد وفي نهاية حديثي، على بعض النقاط الأساسية ولاسيما في موضوع الفساد الذي طغى الحديث بشأنه على كل شيء آخر وإن كان يجري تناوله كما درجنا عليه في الماضي وحتى الآن في المكان والطريقة غير الصحيحة.
أولاً: إنّ الفساد الأكبر والشر الأعظم هو الفساد السياسي، ويعتبر فاسداً سياسياً كل من يقيم دويلات داخل الدولة، ويسيطر على مرافقها، ويغل يد القانون عن الوصول الى أي كان وإلى كل مكان، ومن يعطل الاستحقاقات الدستورية، ومن يحول دون تطبيق الأنظمة والقوانين، ومن يسخِّر النصوص القانونية فيجعلها كالجواري في بلاط القوة الفائضة.
ثانياً: ويتفرع عن الفساد السياسي الفوضى في النظام العام والارتباك في الوظيفة العامة واستتباع الدولة ومؤسساتها لصالح الميليشيات وملوك الطوائف وفقدان السيطرة من قبل رجال السلطة وتعدد الولاءات وانفساح المجال واسعاً أمام التعدي على القطاع العام ونهب ثرواته ولجوء المرتكبين إلى طوائفهم لكي يحتموا من الملاحقة والمحاسبة.
ثالثاً: ويتفرع عنه أيضاً ضعف الانتماء الوطني ليتحول إلى انتماءات مذهبية وطائفية بحيث تفقد الهوية الوطنية طابعها الموحِّد للمواطنين فتضيع بذلك المساواة فيما بينهم.
رابعاً: ويتفرع عن هذا أيضاً وأيضاً فقدان المعايير وضياع مرجعية الدستور بحيث يمكن للمهيمنين أن يعدِّلوا الدستور بالممارسة كما يقولون ويبتكروا في كل يوم قاعدةً جديدةً تخدمُ مصالِحَهُمُ المتبادلةُ بحسب الظروف والأحداث.
ومن هنا فإنّ من نَصّب نفسَهُ والياً للحسبة من دون أن تكونَ لديه المرجعيةُ الأخلاقيةُ ولا القانونيةُ لمحاسبة الآخرين يرفض بصورةٍ كلية الاحتكام إلى علم المحاسبة والتدقيق ومرجعية المستندات ويتحصن خلف عقيرته العالية وفظاظة تعابيره لكي يُبقيَ على نفسه سلطاناً جائراً، ويُبقي قبضته في الوقت ذاته على سائر المواطنين ويضعهم في حالة اتهامٍ دائمٍ بوطنيتهم وشرفهم واستقامتهم ونظافة كفهم. وبناءً على ذلك، يُجْلَدُ المستهدَفون من اللبنانيين يومياً من قبل من يتشبّه ويا للأسف بأسلوب المحاكمات الميدانية التي كان يرأسها المهداوي أيام حكم عبد الكريم قاسم في العراق أو تلك التي شهدتها فرنسا عقب الثورة الفرنسية، ويمارسه ضد الشرفاء.
خامساً: ويتفرع من هذا أيضاً الاستهانةُ بالمالية العامة وبإيراداتها وضرائبها ورسومها الجمركية ومكوسها فتتحولُ الدولةُ إلى مزرعةٍ يجنون ثمارها ولا يحرثون فيها.
سادساً:الخلاصــــة:
إن من أدخل نفسه في مأزقه السياسي وتورط في النزاعات الإقليمية والدولية معرّضاً مصالح لبنان واللبنانيين والدولة، والتي لا قدرة لها ولهم على مواجهتها وأخذ الدولة رهينة وعرضها للمخاطر وعطل مؤسساتها ومواعيدها الدستورية، ومنع دوران العجلة الاقتصادية بصورتها الطبيعية وحجب أموال الجمارك عن خزينة الدولة عبر رسوم جمركية خاصة به في عدد من المنافذ، والذي صادر قرار الحرب والسلم، وخاض حروباً مدمرة للبلد واقتصاده وبنيته التحتية والتي كلفت الخزينة أموالاً باهظة وحالت دون استمرار تحقيق النمو المستدام، إذ أدخل البلاد في مرحلة من التراجع الاقتصادي ابتداءً من العام 2011 حيث انخفض النمو إلى حدودالواحد بالماية سنوياً بعد أن بلغ 8.5% سنوياً على مدى السنوات 2007-2010، وفرض تحول الفائض الكبير في ميزان المدفوعاتإلى عجز كبير مزمن، كذلك منذ العام 2011. وهو من دفع إلى تهميش مؤسسات الدولة، والذي لم يصرح عن الهبات الإيرانية المباشرة دون علم الدولة بها، وهو يتصرف وكأنه امتدادلنظام أجنبي، والذي احتلّ ساحات الوطن واعتدى على المواطنين الآمنين في حياتهم وأمنهم وأملاكهم، والذي يحاول إدخال لبنان في سياسة المحاور والتدخل في شؤون الدول الشقيقة والمشاركة في قتل أبنائها، وذلك خلافاً للسياسة التي اعتمدتها الحكومة بالنأي بالنفس.
إنّ من فعل ويفعل كل ذلك لا يحق له ولا ينبغي أن يستتر في مأزقه وراء غبار غث لا يدوم. ولدينا ما يكفي من الضوء لكشفه وتبديده. فمن عاش حياته في كنف الدولة وظِلِّ القانون وأنفق خبرته وجهده في خدمة مشروع النهوض الوطني وتحديث مالية الدولة لا تشغله هذه الحملة الجديدة من الافتراءات التي اعتاد عليها فصدَّها في كل مرة وهو مستعدٌ لصدِّها في كل حين.