عشرات صور مناظر طبيعية وشعارات ركيكة اللغة، كانت زاد وزير السّياحة في حكومة تصريف الأعمال، وليد نصار، في إطلاقه موسم السّياحة الصيفية للعام الحالي 2022. صور ولافتات سياحية باهتة أرادت أن تنتزع مكانًا لها بين غابة من صور ولافتات مزمنة على طول طريق المطار، للثنائي الشّيعي، منها انتخابية وأخرى لرموزه وقادته وشهدائه ومقاومته. وكان نصار تقدم مرارًا بطلب إزالة هذه الصور الحزبية، لأنها تسيء إلى السائح والمغترب القادم إلى لبنان، وتقدم البلد على صورة مستعمرة إيرانية.
فقبل سنوات كان القطاع السّياحي أكثر القطاعات نشاطًاً، وأحد أبرز الموارد التّي تنشط الاقتصاد وتمول خزينة الدولة اللبنانية. لكن النشاط السياحي انحدر في زمن الأزمات الأمنية والسّياسيّة والصحيّة والاقتصاديّة والدبلوماسية المتتالية، مضيفًا أزمة جديدة إلى سجل الأزمات المتلاحقة.
وتنتشر الصور الحزبية على طول طريق المطار وتتوالى تصريحات وزير السّياحة مستجدية الإدارة الإعلامية للثنائي الشّيعي لتخفيف المظاهر السّياسيّة واستبدالها بصور لطبيعة لبنان. وجاء الرد على طلب الوزير من رئيس بلدية الغبيري، معن الخليل، فقال في حديث تلفزيوني: “في طريق المطار لا يوجد لوحات مخالفة للقانون. وتشجيعًا للسياحة، الوزير يريد أن يرخص مزيدًا من الاعلانات. ونحن نرحب بذلك”. وبذلك لم يتنازل الثنائي ولا البلدية ويزيلا اللافتات، بحجة قانونيتها.
موسم سياحي واعد
وكما يحدث في دول الأنظمة الريعية المأزومة، هرع وزير السياحة اللبناني لضخ التفاؤل الوهمي والعبثي لأهل البلاد المنكوبين، بـ”موسم سياحي واعد”.
في حين يُرتقب قدوم ما يتراوح بين مليون ومليون و200 ألف شخص إلى لبنان بين شهر حزيران وأواخر شهر أيلول، أغلبهم من المغتربين، يُقدر القيمون على الموسم السّياحي تدفق بين مليارين وثلاثة مليارات دولار تتوزع ما بين الفنادق وبيوت الضيافة والمطاعم والشواطئ الخاصة. ورغم تضخم هذه الأرقام المقدرة مقارنةً بالسنتين الفائتتين بمعدل الضعف تقريبًا وأحيانًا تتجاوز 80 في المئة، بلغ عدد المسافرين عبر المطار منذ مطلع العام الجاري وحتّى نهاية شهر أيار ما يقارب المليون و900 ألف شخص. أما أبرز المناطق والمدن السّياحيّة ومن ضمنها بيروت، فتشهد منذ الآن إقبالاً كثيفًا للسّياح من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية.
لا يخفى أن الأسباب الرئيسية لازدهار هذا الموسم السّياحي، هي تدني كلفة الخدمات وأسعار السّلع مقارنةً بارتفاع سعر صرف الدولار، وكذلك رفع الإجراءات الصحيّة التّي أدت العامين الفائتين إلى انخفاض أعداد الوافدين. وحسب بعض التقديرات والحجوزات من المتوقع وصول ما بين 10 و12 ألف شخص يوميًا إلى المطار على مدار شهور الصيف الثلاثة. وأشارت مصادر متابعة لـ”المدن” أن أغلب الفنادق بين صور وجبيل والبترون وبعلبك قد حُجزت بنسبة تفوق 85 في المئة، وبعضها وصلت حجوزاتها إلى 90 في المئة، وكذلك بيوت الضيافة والشقق المفروشة التّي حجزها السّياح والمغتربون مقدمًا وبالفريش دولار.
وأكد وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال، بسام مولوي، خلال جولة له على مطار بيروت الدولي، مرافقًا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للإطلاع على التحضيرات لبدء موسم الصيف، قال: “الأمن في لبنان بحالة جيّدة، والصيف واعد، ونُطمئن الوافدين أن جهاز أمن المطار يقوم بواجبه”. وأعلن ميقاتي الحاجة إلى 100 عنصر أمن إضافي، ودعا إلى اجتماعات مع الوزراء والمعنيين لتعزيز الأمن في المطار.
لا شك في أن لهذا الموسم السّياحي إيجابيات عدة على العجلة الاقتصادية. فالفنادق مستفيدة والمطاعم والمحال التجارية وسائقي التاكسي والأسواق الشعبية وأصحاب الحرف. وأغلب الظن أن السّائح والمغترب سيلمس الفرق الهائل في الأسعار بين بلادهم ولبنان، نتيجة انهيار العملة. غير أن هذه الإيجابيات لا تعدو كونها جرعة أوكسجين قصيرة الأمد، في ظلّ العقبات المعرقلة للموسم، فضلاً عن وضع لبنان المأزوم بمشاكله البنيوية، والتّي لم تركتها المنظومة الفاسدة تتفاقم.
الغلاء والخوف.. بعلبك مثالًا
رغم كل تمنيات المعنيين بنجاح هذا الموسم، لا شك في أن الوضع الاقتصادي مهترئ وكذلك البنى التحتية، فضلاً عن أزمة الطاقة من مياه وكهرباء تشكل حجر عثرة أمام الموسم السّياحي العتيد. فساعات التغذية الكهربائية التّي تترواح بين سّاعتين وأربع ساعات، تحول دون رغبة المغترب المكوث في منزل ذويه، فيجبر على استئجار غرف في الفنادق التّي باتت كلفتها عالية بالعملات الأجنبية، نظرًا لارتفاع كلفة الطاقة.
وانفلات الأسعار أثار استياء كثرة من السّياح والمغتربين. فطمع أصحاب المؤسسات لم يمنعهم من تجاوز هامش الربحية المحددة، بل دفعهم لرفع الأسعار بالدولار. وهذا قد يتسبب طرديًا بارتفاع الدولار لا بانخفاضه، على عكس ما هو متوقع. فغياب أجهزة الرقابة من شرطة سّياحيّة ومصلحة حماية المستهلك، بحجة انخفاض العديد، يسهم في تعميق المشكلة.
والأزمة الأمنية الضاربة اليوم لا تشجع الوافدين. وكثرة الجرائم التّي تحدث في وضح النهار ودوريًا، من سرقات ونشل واعتداءات وقتل وأحيانًا خطف، لها دورها في نفور الأجانب والمغتربين من زيارة لبنان. فالأحداث الأخيرة في بعلبك مثلاً من اشتباكات مسلحة وخطف، أقصت هذه المدينة عن خريطة الموسم السّياحيّ، وسجنتها في قفص السّياحة الدينية التّي أثبتت عجزها عن تحريك عجلة السّوق البعلبكي. بل طوقت المدينة وقلعتها التاريخية بحواجز منفرة.
موسم الصيف: امتياز طبقي
أصدرت وزارة السياحة تعميمًا تسمح بموجبه للمؤسسات السياحية استثنائيًا بإعلان لوائح أسعارها بالدولار الأميركي، على أن تصدر الفاتورة النهائية بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي حتى نهاية أيلول المقبل، بحجة الظروف الاستثنائية: تقلب سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. يأتي هذا القرار دليلاً واضحًا على استهتار بالناس. ففي حين يعجز المواطن اللبناني عن تأمين حاجياته الأساسية الغذائية الضرورية، ما جعله من بلدان تعاني من بؤر جوع حسب تقرير برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو). فقد بلغ التضخم المالي نسبة 215 في المئة، وارتفعت أسعار معظم المواد الغذائية لتجاوز عتبة ألف في المئة، حسب تقارير اليونسيف.
لذا بات الموسم السّياحي رفاهية باهظة الكلفة وغير مرغوب بها من غالبية اللبنانين المفقرين، ومحصوراً بالسائح الأجنبي والمغترب وكل من يحمل دولارات. فكلفة زيارة مطعم أو مقهى أو مسبح، باتت تجاوز طاقة معظم اللبنانيين، وتزيد عن الحدّ الأدنى للأجور بأضعاف. وهكذا تدولر القطاع السّياحي.
وعلى قاعدة “مصائب قوم عند قومٍ فوائد”، اجتذب لبنان السّياح والمغتربين بسبب تدني الأسعار فيه عليهم، في حين جعلت دولرة القطاع امتيازاً لا يشمل معظم الناس. وباتت باقي القطاعات كالصحة والتعليم، من نصيب الفئات الاجتماعبة الميسورة. وهكذا تكرس المنظومة الريعية إنتاج نفسها عبر أصحاب المؤسسات الخدماتية. أما اللبناني العادي فصار ضيفًا ثقيلاً وغير مرغوب فيه في بلده.