أصدر مصرف لبنان مؤخّرًا أرقامه التي تعكس مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلّي الإجمالي للبنان، خلال العام الماضي، بالإضافة إلى صافي التدفّقات النقديّة التي يؤمّنها هذا القطاع. الواضح من هذه الأرقام، هو أنّ نشاط القطاع حقّق بالفعل تحسّنًا نسبيًا مقارنة بأرقام السنوات السابقة، غير أنّ هذا التحسّن ظلّ محدودًا للغاية، قياسًا بالتقارير التي بالغت في الحديث عن أثر هذا التحسّن على المستوى الاقتصادي العام.
كما يبدو واضحًا أن التدفّقات الماليّة التي أمّنها هذا القطاع كانت متواضعة، إذا ما تمّت مقارنتها بعجز الميزان التجاري أو صافي حاجة لبنان للعملة الصعبة. ما تؤكّده الأرقام، هو أنّ الرهان على عائدات هذا القطاع بالتحديد، للخروج من الأزمة من دون سلّة الإصلاحات التي يحتاجها لبنان، ليس سوى وهم وسراب. ورغم ضرورة عدم تجاهل أثر الحرب خلال الفصل الأخير من العام الماضي، على مستوى النشاط السياحي، لا يبدو أنّ القطاع كان في طريقة لتحقيق طفرة أكبر بكثير، لولا هذه الحرب.
حصّة العوائد من الناتج المحلّي
وفقًا لأرقام المصرف المركزي، بلغت إيرادات هذا القطاع خلال العام 2023 حدود 5.41 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ5.32 مليار دولار أميركي خلال العام السابق، وهو ما يعني أنّ إيرادات النشاط السياحي حققت زيادة محدودة لا تتجاوز 1.7% بين العامين. وإذا ما أخذنا بتقديرات البنك الدولي لحجم الاقتصاد اللبناني خلال العام الماضي، ستعني هذه الأرقام أنّ القطاع السياحي ساهم عام 2023 بنحو 27% من الناتج المحلّي الإجمالي، أي ما يتجاوز ربع الناتج بنسبة ضئيلة.
الأرقام المتاحة، لا توحي أنّ القطاع استعاد عافيته بالكامل، مقارنة بأرقام السنوات التي سبقت حصول الأزمة الاقتصاديّة. فمتوسّط عائدات القطاع منذ العام 2002، كان قد تجاوز 6.11 مليار دولار أميركي، ما يعني أن حجم الإيرادات الحالي ما زال أقل بنحو 12% قياسًا بعائدات السنوات السابقة. وهذا ما يتطابق كذلك مع التغيّرات في أعداد السائحين الوافدين، التي تنشرها في العادة وزارة السياحة، أو التي يمكن استخلاصها من نشاط مطار بيروت الدولي.
ومع ذلك، يمكن لفت النظر إلى أنّ حجم عائدات العام الماضي كان الأعلى مقارنة بالسنوات السابقة التي تلت الانهيار، والتي لم تتجاوز حدود 2.35 مليار دولار عام 2020، و3.14 مليار دولار عام 2021، وصولًا إلى 5.32 مليار دولار عام 2022 كما أشرنا سابقًا. وبهذا المعنى، مثّلت الإيرادات المحققة العام الماضي استكمالًا للمسار التصاعدي الذي سجّله لبنان على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، بمعزل عن تداعيات الحرب في الفصل الأخير من السنة.
الدخول في تفاصيل أرقام العام الماضي، تُظهر أنّ حجم الإيرادات قارب 992.8 مليون دولار خلال الفصل الأخير من السنة، والذي شهد بداية المواجهة في الجنوب اللبناني. وهذا المستوى كان الأدنى مقارنة بعائدات الفصول السابقة، التي تجاوزت 1.16 مليار دولار خلال الفصل الأوّل، و1.47 مليار دولار خلال الفصل الثاني من العام، وصولًا إلى 1.79 مليار دولار خلال الفصل الثالث من السنة. ورغم أثر الحرب الواضح، من الأكيد أيضًا أنّ نسبة إيرادات القطاع من حجم الناتج المحلّي لم تكن لتحقق نتائج مبهرة أو أكثر إثارة للاهتمام، لو أنّ أرقام الفصل الأخير من السنة كانت مشابهة لمتوسّط الفصول الثلاثة الأولى منها.
في جميع الحالات، من الواضح أن حجم الانتعاشة التي شهدها لبنان في القطاع السياحي، خلال العام الماضي، لم تسهم بأكثر من 90 مليون دولار إضافي في عائدات القطاع طوال السنة، وهو ما يعبّر بشكل واضح عن محدوديّة هذه العائدات، مقارنة بالانكماش الاقتصادي الذي شهده لبنان خلال سنوات الأزمة. ولتضح الصورة هنا بشكل أفضل، تكفي الإشارة إلى أنّ أرقام صندوق النقد الدولي تدل على أنّ الناتج المحلّي الإجمالي خسر نحو 38.7 مليار دولار من قيمته، طوال الأعوام الممتدة بين 2019 و2023، بفعل تداعيات الأزمة التي تشهدها البلاد.
التدفّقات النقديّة المتواضعة
طوال العام الماضي، كثر الحديث عن مساهمة النشاط السياحي في الاستقرار النقدي الذي يشهده لبنان، وفي تأمين الحد الأدنى من تدفقات العملة الصعبة التي تحتاجها السوق المحلّي. وهذا ما يقودنا إلى السؤال عن صافي التدفقات النقديّة من الخارج، التي أمّنها هذا القطاع طوال العام 2023. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ هنا المؤشّر يختلف بطبيعته عن رقم إيرادات القطاع في السوق المحلّي، لكونه يقتصر على أثر النشاط السياحي على مستوى السيولة الواردة من الخارج، بعد حسم السيولة الخارجة من البلاد بفعل النشاط السياحي نفسه.
وفقًا لأرقام المصرف المركزي، بلغ حجم صافي التدفقات الناتجة عن النشاط السياحي حدود 1.72 مليار دولار خلال العام الماضي، منها 376 مليون دولار من تدفقات الفصل الأوّل من السنة، و546 مليون دولار خلال الفصل الثاني، و582.6 مليون دولار خلال الفصل الثالث، و216.7 مليون دولار فقط خلال الفصل الرابع والأخير من العام. ومن الواضح أن هذه الأرقام تقل بنسبة كبيرة عن مستويات ما قبل الأزمة الاقتصاديّة، حين بلغ متوسّط هذه التدفقات حدود 2.18 مليار دولار خلال الأعوام التي تلت سنة 2002.
من المجحف التنكّر لأهميّة هذه التدفقات النقديّة في هذه المرحلة بالذات، كونها تمثّل أحد المصادر المهمّة التي ترفد السوق بالعملة الصعبة، وهو ما يسهم في دعم قيمة العملة المحليّة. إلا أنّ هناك مبالغة واضحة في الحديث عن أثر هذه التدفّقات، التي لا يتجاوز حجمها حاليًا 9.4% فقط من حجم السيولة التي يحتاجها لبنان لتمويل الاستيراد، بحسب أرقام الجمارك العام الماضي. وعلى هذا الأساس، يبقى العامل الأكثر حسمًا في المعادلة هو تحويلات المغتربين، التي تجاوز حجمها العام الماضي حدود 6.7 مليار دولار، والتي يقارب حجمها 37% من حجم السيولة التي يحتاجها لبنان لتمويل الاستيراد.
كل ما سبق ذكره، لا يستهدف طبعًا التقليل من شأن النشاط السياحي، الذي يسهم في خلق الوظائف التي تحقق الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي. كما يبقى هذا القطاع أحد الركائز التي تستهدف جميع الدول الحفاظ عليها، لخلق النمو الاقتصادي المتوازن على المدى البعيد. لكنّ المهم في الأرقام المتاحة اليوم، هو التأكيد على عدم جدوى الرهان على أي تحسّن ظرفي ومحدود، لمعالجة أزمة بحجم الانهيار المالي الذي ضرب لبنان منذ العام 2019. فعوائد القطاع وتدفقاته النقديّة، تبقى محدودة جدًا قياسًا بالآثار التي نتجت عن انهيار القطاع المالي، وما تبع ذلك من انكماش في الناتج المحلّي. هذه الأزمة، لا تعالجها سوى مسارات منظمة للتعافي المالي.