الشفافية في قطاع البترول… منقوصة وملغومة

من أجمل بيوت الشعر لأبي الطيب المتنبي، ما قاله لسيف الدولة:

«يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»

ان القول أعلاه ينطبق في حالتنا لناحية ان الخصم والخصام وسلطة القرار، بيد من لا يعدل في معاملة شعبه.

السياسة في تعريفها هي «فنّ الممكن»، بما يعني انها تهدف الى ايجاد وخلق ظروف وفرص مؤاتية لإفادة المجتمع او لايجاد حلول لمشكلة ما، ليأتي التشريع مكرّساً لوضع قانوني اوجدته السياسة.

اما التشريع فهو علم، بموجبه يقوم ممثلو الشعب بتنظيم موضوع ما وفق معايير موضوعية تهدف الى حماية الحق العام وحقوق الشعب تأميناً لمصلحته، عبر وضع أسس للرقابة والشفافية وقطع الطريق امام الفساد وصرف النفوذ. وتتصف القوانين بالشمولية والاتزان بهدف تحقيق العدالة والمساواة ليأتي الانصاف مكملاً لها.

تشريعات ظرفية يجدر الطعن بها

المؤسف في لبنان يتلخّص بالمستوى المتدنّي في التشريع، خاصة في الحقبة التي امتدّت منذ العام 1991 بعيد انتهاء الحرب اللبنانية لغاية تاريخه. حيث امسى التشريع ظرفياً يعالج مصالح ضيقة، واحتمالات تفيد من تولّى الشأن العام على حساب الشعب اللبناني.

وقد وردت عدّة تشريعات يمكن الطعن بعدم دستوريتها، الا ان تواطؤ نواب الامة مع السلطة التنفيذية حال دون مراجعة المجلس الدستوري بموضوعها. ما يفرض تعديلاً دستورياً لتمكين نقابة المحامين من التقدم بطعن بالقوانين امام المجلس الدستوري، في ما لو تبين لها عدم دستوريتها. واعطاء عدد من القضاة او مجلس القضاء الاعلى او نادي القضاة الصفة للطعن بمثل هذه القوانين حرصاً على المصلحة العامة.

ماذا عن التشريعات النفطية؟

وبالعودة الى موضوعنا الراهن. يحتلّ قطاع النفط والغاز في لبنان، مرتبة متقدمة في سلّم الاولويات، لناحية قوننته ودعم الشفافية فيه وتحصينه من الفاسدين الطامعين في وضع يدهم على مقدراته كما درجت الحالة للأسف في لبنان.

سنتناول في هذه الدراسة الملخصة بعض جوانب «قانون دعم الشفافية في قطاع البترول» برقم 84 تاريخ 10/10/2018 المنشور في الجريدة الرسمية عدد 45 تاريخ 18/10/2018 خاصة المادة السادسة منه. وستكون لنا لاحقا، دراسات اخرى مقتضبة وتعليقات على باقي مواد القانون 84/2018، بالاضافة الى القانون 132/2010 (الموارد البترولية في المياه البحرية) ومراسيمه التطبيقية.

المادة السادسة من القانون 84/2010

نصت المادة السادسة من القانون 84/2010 تحت عنوان « الامتناع عن الاستثمار في الانشطة البترولية» على انه:

«1- يمنع على جميع الاشخاص والجهات الوارد ذكرها في الفقرة 3 من هذه المادة خلال فترة توليهم مناصبهم، ولمدة ثلاث سنوات متتالية بعد تركهم مناصبهم:

– الاستثمار بصورة مباشرة او غير مباشرة، بأي شكل من الاشكال في الشركات المؤهلة مسبقاً للاشتراك في دورات التراخيص والشركات صاحبة الحقوق البترولية والشركات الام و/او الشركات المرتبطة بها والشركات المؤهلة لانتقال حق بترولي اليها والمقاولين الثانويين والمتعاقدين الثانويين مع هذه الشركات. اكان ذلك عن طريق تملك اسهم ام غير ذلك من الطرق والاشكال.

– تولي منصب رئيس مجلس ادارة و/او المدير العام او عضو مجلس ادارة و/او مدير رئيسي في اي من هذه الشركات المحددة اعلاه.

يشمل المنع المذكور زوج واصول و فروع اولئك الاشخاص حتى الدرجة الاولى، واي شريك او وكيل لأي من هؤلاء.

2- في حال قيام احد الاشخاص المحددين في الفقرة 3 من هذه المادة بالاستثمار او تولي المناصب في الشركات وفقاً لما هو مذكور في الفقرة 1 اعلاه قبل تاريخ تأهيلها المسبق او قبل تاريخ انتقال الحق البترولي اليها، وعليه فور تأهيل الشركة للاشتراك في دورة التراخيص في لبنان او انتقال الحق البترولي اليها، ان يصرّح عن هذه الاستثمارات وعن الاسهم التي يملكها فيها للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، او للنيابة العامة المالية لحين انشاء الهيئة. وان يختار بين متابعة الاستثمار او البقاء في منصبه الاداري في الشركة وبين إشغاله احد المناصب المحددة في الفقرة 3 من هذه المادة.

3- يطبق المنع المذكور في الفقرتين 1و2 من هذه المادة على الاشخاص الذين يتولون مناصب سياسية عامة او وظائف عليا في البلاد…».

مثالب وثغرات

ما يستدعي الملاحظات التالية:

• شمل المنع في الفقرة الاولى من المادة 6 الزوج والاصول والفروع حتى الدرجة الاولى!

وهذا اخطر ما يمكن اقراره وتكريسه بقانون…

فقانون اصول المحاكمات المدنية في مادته 120 فرض التنحي على القاضي في حال كانت تربطه باحد الخصوم علاقة قرابة لغاية الدرجة الرابعة.

والمادة 586 عقوبات اعطت صفة الادعاء الشخصي لاقارب الميت لغاية الدرجة الرابعة لاقامة دعوى «ذم وقدح في الميت».

والمادة 514 من قانون التجارة منعت تعيين وكيل للتفليسة من اقارب المفلس لغاية الدرجة الرابعة.

والمادة 147 ا.م.ج منعت على القائم بالتبليغ ان يبلغ احد اقاربه لغاية الدرجة الرابعة.

والمادة 81 عقوبات منعت الاقامة بحكم القانون في القضاء الذي يسكن فيه المجني عليه او انسباؤه حتى الدرجة الرابعة.

بالتالي، يكون القانون اللبناني قد علّق اهمية كبرى على مرتبة الاقارب حتى الدرجة الرابعة، نظراً لامكانية وجود او نشوء مصلحة بين الاقارب لغاية هذه الدرجة.

ومنع الاستثمار في القطاع البترولي لغاية الدرجة الاولى من اقارب من يتولون الشأن العام او الوظائف المؤثرة في القطاع البترولي لا يمكنه ان يؤدي الغاية المرجوّة من القانون 84/2018، في تحييد هذا القطاع وحمايته من مطامع متولي الشأن العام ودعم الشفافية فيه.

ما يوجب تعديل المادة السادسة من القانون 84/2018 وجعلها تشمل الاقارب لغاية الدرجة الرابعة، انسجاماً مع باقي القوانين اللبنانية المرعية الاجراء.

منع ثم فتح المجال واسعاً

• جاءت الفقرة الاولى من المادة السادسة من القانون 84/2018 تمنع، لتعود في فقرتها الثانية وتفتح المجال واسعاً امام متولي الشأن العام والوظائف المؤثرة للاستثمار في القطاع البترولي. حيث وضعت فرضيّة انه في حال قيام هؤلاء بتولي ادارة اي من الشركات المعنية في القطاع او الاستثمار فيها قبل تأهيلها المسبق او قبل انتقال الحق البترولي اليها عليهم، فور تأهيل الشركة، ان يصرّحوا للنيابة العامة المالية!!!

هذه الفقرة فضلاً عن انها تخالف انظمة الوظيفة العامة، فهي مخالفة لابسط مبادئ العدل والمساواة بين المشتركين في دورات التأهيل، وهي تجعل الفقرة الاولى عقيمة ودون مفعول.

فأين الشفافية والمساواة بين الشركات، في ما لو اشتركت شركة يديرها احد متولي الشأن العام في دورات التأهيل ؟؟؟

وأين مكافحة الفساد والشفافية في تخيير متولي الشأن العام بين وظائفهم ومناصبهم في الشركات بعد تأهيلها او انتقال الحق البترولي اليها؟؟؟

وجوب التخيير

اما الاأجدى في الموضوع، فكان في وجوب تخيير متولي الشأن العام بين وظائفهم ومهامهم وبين مساهمتهم او ادارتهم لشركات مهتمة بالقطاع البترولي، قبل تاريخ تقدم شركاتهم لدورة التأهيل بثلاث سنوات، منعاً من صرف نفوذهم واساءة استعمال سلطتهم خدمة لمصالحهم الشخصية.

تعارض بين مادتين

• والفقرة الثانية من المادة السادسة تتعارض مع احكام المادة السابعة من القانون عينه تحت عنوان مكافحة الفساد.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، الا تعتبر مشاركة او ادارة، متولي الشأن العام والوظائف في الشركات المهتمة في قطاع النفط بمثابة قبول عرض او مدفوعات او منفعة في سبيل التأهيل المسبق او الاستحصال على حقوق بترولية (الامر الذي ادانته المادة السابعة من القانون 84/2018).

ما يفرض وجوب تعديل الفقرة 2 من المادة 6 من القانون 84/2018 لجعلها تشمل اقارب من يتولون الشأن العام والوظائف الادارية في الدولة واقاربهم لغاية الدرجة الرابعة، انسجاماً مع باقي النصوص القانونية المرعية الاجراء وحرصا على المصلحة العامة. بالاضافة الى الغاء حق الخيار الممنوح في الفقرة 2 من المادة 6 ومنع الشركات التي يديرها سياسيون او متولو الشأن العام او الموظفون او المشاركون او المساهمون فيها من التقدّم الى دورة تأهيل ومنعهم باي شكل من الاشكال، من التعاقد في القطاع البترولي.

مستنقع فساد وجشع وطمع

و الأخطر من كل ذلك مؤخراً هو تسجيل اكثر من مئة شركة خدمات ارضية لشركات التنقيب عن النفط، جميعها تعود لرؤساء ووزراء ونواب حاليين وسابقين… الامر الذي يؤكد تخوّفنا وهواجس الشعب اللبناني الذي لطالما عانى من فساد حكامه.

فاذا كان هنالك من امل في استثمار النفط والغاز لاعادة تفعيل الدورة الاقتصادية وتمويل القطاع المصرفي لاعادة الودائع الضائعة، فان هذا الامل يضمحلّ في مستنقع فساد، جشع وطمع الحكام الذين يتقصّدون اهدار كل فسحة امل للبنانيين.

مصدرنداء الوطن - المحامي راضي بطرس
المادة السابقةجواد: 3 سنوات ونبدأ بإنتاج الغاز
المقالة القادمةمدقّقو الحسابات… يفلتون من العقاب أيضاً!