أبطَل مجلس شورى الدولة اول أمس قرار مجلس الوزراء الصادر في ايار 2022، والذي يُلغي في إطار استراتيجية النهوض بالقطاع المالي، جزءا كبيرا من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف. فهل يشكّل هذا القرار صفعة لمشروع القانون المتعلق بمعالجة أوضاع المصارف واعادة تنظيمها الذي تنوي الحكومة درسه الاسبوع المقبل خصوصاً انه ينطلق من المبدأ نفسه؟
بعدما أعلن مجلس الوزراء في ايار من العام 2022 موافقته على مضمون استراتيجية النهوض بالقطاع المالي، والتي تضمّنت في احد بنودها إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف، تقدمت جمعية المصارف بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة بعدما اعتبرت انّ في هذا الطرح اسلوبا مموّها لشطب الودائع، إذ انّ إلغاء موجودات المصارف لدى مصرف لبنان يعني انه لم يعد لدى المصارف أموالا لدى المصرف المركزي، وتالياً لن تتمكن مطلقاً من اعادة الاموال الى مودعيها.
في 22 حزيران 2023، صدر عن مجلس شورى الدولة قرار “قبول المراجعة شكلًا”، بحيث جاء في نصّ القرار: “يقتضى قبول المراجعة شكلاً كَون القرار موضوع الطعن هو قرار إداري نافذ وضارّ بمنطوق المادة 105 من نظام مجلس شورى الدولة، ذلك أنّ مجلس الوزراء قرّر الموافقة على مضمون استراتيجية النهوض بالقطاع المالي التي شكّلت جزءاً من قرار المجلس، وقد صدر هذا القرار في 2022/5/20 بعد قيام الدولة اللبنانية بمصادرة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان والتصرّف بها وتملّكها ما بين 2010 و2021 من دون الإعلان عن ذلك في حينه. وعليه، فإنّ القرار المَشكو منه لا يتعلّق بعمل مستقبليّ تنوي الحكومة القيام به، بل هو قرار استلحاقيّ a posteriori أتى لإعلان، بمفعول رجعي، أن تَملّك الودائع الذي نفّذته الدولة اللبنانية وانتهت من تنفيذه من دون أن تسمّيه في حينه كذلك، أصبح بموجب القرار تَملّكاً نهائيّاً. وبالتالي، فإنّ القرار المذكور نافذ فورًا ويُعفي مصرف لبنان من التزاماته تجاه المصارف اللبنانية، وبالتالي يعفي الدولة من موجب دفع المبالغ التي استدانَتها من مصرف لبنان.
أضاف: إنّ القرار المشكو منه هو فعلياً مصادرة نافذة لودائع المودعين لدى المصارف اللبنانية بمفعول رجعيّ، وهو يؤدّي عمليّاً إلى إلغاء القطاع المصرفيّ اللبنانيّ، ويخلق نزاعاً بين المصارف والمودعين بشكل يُخالف قواعد المسؤوليّة، فتكون بالتالي جمعية المصارف في لبنان التي تمثّل المصلحة الجماعيّة لجميع المصارف متضرّرة من هذا القرار”.
قرار نهائي
واستكمالاً، أصدر مجلس الشورى أمس بالاجماع قراراً نهائياً يقضي بقبول المراجعة اساساً وإبطال قرار مجلس الوزراء رقم 3 تاريخ 2-/5/22 المتعلق بالموافقة على استراتيجية النهوض بالقطاع المالي. ومما جاء في القرار:
بما انّ قرار مجلس الوزراء في شقه المَطعون فيه نَصّ على إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان وإغلاق صافي مركز النقد الاجنبي المفتوح للمصرف، اي انه نَصّ على إلغاء الديون المتوجبة على مصرف لبنان تجاه المصارف، والتي تمثّل وفقاً لادلاءات الجهة المستدعية من دون ان تنازعها في ذلك الدولة المُستدعى بوجهها، ودائع المودعين لدى المصارف اللبنانية بشكل حكمي ومن دون اي اجراءات او احكام تعويضية، وذلك كخطوة أولية وأساسية للنهوض بالقطاع المالي. وبما انّ المعطيات الواردة في الخطة التي تبنّاها مجلس الوزراء في قراره المطعون فيه ومقتضيات معالجة الأزمة المصرفية والنهوض بالقطاع المالي لا تبرّر لأيّ مرجع تنظيمي او تشريعي اتخاذ اجراءات من هذا القبيل، اي إلغاء ديون مصرف لبنان تجاه المصارف، لا سيما انّ إلغاء الديون او شطب الودائع لن تقابله اي احكام او خطة لتعويض الدائنين او اصحاب المال عن الدين، ما يشكَل تعرّضاً صارخاً لحق الملكية المُكرّس دستوراً.
وبما انه يستنتج من الاحكام القانونية ان المصرف المركزي هو مصرف القطاع العام، وانّ المشترع حرم من حيث المبدأ على الحكومة الاقتراض من المصرف المركزي إلّا ضمن حالات وشروط محددة بَيّنتها المادة 91 من قانون النقد والتسليف، فيما أوجب عليها في حالة عجز المصرف المركزي بتغطية الخسارة من الاحتياط العام او بدفعة موازية من الخزينة.
وبما انه لا يمكن القول انّ القروض التي استدانتها الدولة ومصرف لبنان من المصارف والتي هي من اموال المودعين لديها، قد تمّ صرف جزء كبير منها في سبيل تثبيت سعر صرف الليرة وفي دعم المواد والسلع الاستهلاكية، ذلك انّ هذا الامر من شأنه خرق مبدأ المساواة امام الاعباء العامة وتحميل هذه الاعباء الى فئة من المواطنين هم المودعون دون سواهم من المواطنين الذين استفادوا جميعهم من الدعم وتثبيت سعر الصرف المذكورين.
وبما انه من ناحية اخيرة فإنّ تقرير إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف يشكّل حائلاً دون قيام هذه المصارف من إتمام موجباتها برد الودائع عند الطلب اليها من دون اي تأخير وفقاً لما تفرضه احكام المواد 690 وما يليها من قانون الموجبات والعقود، ويؤدي بالتالي الى الاخلال بالموجبات المهنية المفروضة على المصارف لجهة المحافظة على حقوق المودعين وأموالهم، وضرورة اعادة الوديعة لأصحابها بالطريقة التي تحقق لهم الايفاء الفعلي ولا تُلحق بهم اي ضرر او تؤدي الى حرمانهم من الحصول فعلياً على اموالهم او استعمالها او استثمارها بشكل منتج.
وبما انه يقتضي في ضوء ما تقدّم وفي ضوء ثبوت مخالفة قرار مجلس الوزراء في شقه المطعون فيه، لأحكام ومبادئ دستورية ومبادئ مُستقاة من اتفاقيات دولية ولقوانين وطنية، إبطال القرار المذكور واعتبار ايّ إجراء مُتخذ استنادا الى هذا القرار مخالفاً بشكل واضح لأحكام الدستور والقوانين المرعية الاجراء.
لذلك يقرر (مجلس الشورى) بالاجماع قبول المراجعة اساساً وإبطال قرار مجلس الوزراء رقم 3 تاريخ 20/5/2022 بالموافقة على استراتيجية النهوض بالقطاع المالي في شقها المتعلق بإلغاء “جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف، وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان وإغلاق صافي مركز النقد الاجنبي المفتوح للمصرف (Net Open FX Position). وتضمين المستدعى بوجهها رسوم ومصاريف المحاكمة.
مصير دعوى ربط النزاع؟
في هذه الاثناء، وبينما كانت جمعية المصارف تنتظر القرار النهائي لمجلس شورى الدولة، أُعلن في 6 كانون الاول 2023 انّ “أحد عشر مصرفاً لبنانياً رفعت الى وزارة المال مذكّرة ربط نزاع، طالبَت فيها الدولة اللبنانية بتسديد ديونها والتزاماتها الى مصرف لبنان لكي يتمكّن الاخير من تسديد التزاماته الى المصارف اللبنانية، لتتمكّن بدورها من اعادة اموال المودعين”. اليوم، وبعد مرور شهرين على رفع هذه المذكرة، بات يحقّ للمصارف ان تتقدم بدعوى ربط نزاع ضد الدولة اللبنانية. فإلى أي مدى يشكّل هذا القرار دفعاً لدعوى المصارف من جهة، وصفعة لخطة معالجة وضع المصارف من جهة أخرى خصوصاً انّ كلاهما يتحدث عن شطب مطلوبات مصرف لبنان تجاه المصارف؟
في هذا السياق، يقول رئيس مؤسسة “جوستيسيا” المحامي الدكتور بول مرقص انّ قرار مجلس شورى الدولة بإبطال قرار مجلس الوزراء رقم 3 تاريخ 20 ايار 2022 في الشق المتعلق بإلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف تخفيضاً للعجز في رأسمال مصرف لبنان، له تأثير حاسم على مجمل استراتيجية النهوض بالقطاع المالي وعلى خطة التعافي ولكن ايضاً على مشروع قانون اعادة هيكلة القطاع المصرفي، لأنّ المُرتكز الاساسي لهذه النصوص هو إلغاء او شطب اموال المصارف لدى مصرف لبنان في جزء كبير منها وتحميل المسؤولية الكبرى لهذه المصارف، بحيث ان مجلس شورى الدولة اعتبر ذلك مساساً بحق الملكية الفردية المَكفول بمقتضى المادة 15 من الدستور والمواثيق العالمية لحقوق الانسان، وان لا مبرر لإلغاء ديون مصرف لبنان على اعتبار انّ المعطيات الواردة في الخطة التي تبنّاها مجلس الوزراء لا تبرّر إلغاء ديون مصرف لبنان تجاه المصارف التي تمثّل في الواقع ودائع المودعين لدى المصارف وانعكاساً لها، لا سيما انّ إلغاء هذه الديون او شطب الودائع لم تقابله اي خطة للتعويض على المودعين بشكل واضح، مما يعتبر انتهاكاً لحق الملكية المذكور، لا سيما انّ قانون النقد والتسليف يوجِب على الدولة في حال عجز المصرف المركزي تغطية الخسارة من الاحتياطي العام او بدفعة موازية من الخزينة وليس شطب هذه الاموال، لا سيما ان مصرف لبنان مسؤول عن الوديعة المحفوظة لديه ويجب عليه ردّها عند الطلب اليه أسوة بالمصارف بمقتضى قانون التجارة، ولا يمكن القبول بالاخلال بموجب السلامة الائتمانية المتمثّلة بالحفاظ على حقوق المودعين.
واعتبر مرقص انه لا مبرر ولا يستقيم القول انه تم تثبيت سعر صرف الليرة او دعم السلع والمواد الاستهلاكية من هذه الاموال على شكل قروض استدانَتها الدولة ومصرف لبنان من المصارف، لأنّ مجلس الشورى اعتبر انّ ذلك يشكّل خرقاً لمبدأ المساواة امام الاعباء العامة، وتحميل هذه الاعباء الى فئة من المواطنين هم المودعون دون سواهم من المواطنين الذين استفادوا جميعهم من الدعم، وتثبيت سعرَي الصرف المذكورين وهو ما سبق وأشرنا اليه مراراً.
وتابع مرقص: اعتبر مجلس الشورى انّ تقرير الغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف، وما تمثّله فعلاً هذه الالتزامات من ايداعات للمودعين لدى المصارف الخاصة، يشكل حائلا دون قيام هذه المصارف بإتمام واجباتها برد الودائع عند الطلب اليها من دون اي تأخير.
أضاف: لمجمل هذه الاسباب، إنّ قرار مجلس شورى الدولة يؤثر تأثيراً بالغاً على روحية هذه المستندات الثلاثة التي سبق واشرنا اليها، وهي خطة التعافي واستراتيجة النهوض ومشروع قانون هيكلة المصارف.
وردا على سؤال، اعتبر مرقص انّ هذا القرار يشكل سنداً رئيسياً للمصارف في مذكرة ربط النزاع التي سبق وتقدمت بها وللاجراءات القضائية التي يمكن ان تقوم بها، بحيث انه لا يمكن تحميل المصارف عبء تصحيح المالية العامة في الدولة واعباء ميزانية مصرف لبنان، ذلك انّ التوجّه الحكومي قد تجلى ايضاً بمشروع القانون الذي جاء ايضا بما يلي:
– في مشروع قانون “معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”، تغيب مسؤولية الدولة عن تحمّل “الفجوة المالية” التي يواجهها مصرف لبنان وهي بذلك تتنصّل من مسؤولياتها.
– انّ التعاون وتوزيع المسؤوليات ممكن بين المصارف والمصرف المركزي والدولة، لكن ما هو مطروح في المشروع لا يُقارب فجوة مصرف لبنان من حيث مسؤولية الدولة عنها والتي سبّبتها، وهي نتيجة اقتراض أموال المودعين وسوء استعمالها.
– في مشروع القانون، لا رؤية حول تسديد الدولة لهذه الفجوة بصَرف النظر عن مسؤولية الفريقين الآخرين وبصرف النظر عن الودائع التي تفوق او تنقص عن الـ١٠٠ ألف دولار.
– وفي مشروع القانون واسبابه الموجبة، تنتفي الإشارة الى أي إصلاح للقطاع العام ومكافحة الفساد، بحيث أنّ “السيستم” الذي أوصَلنا الى هذا المأزق مستمر بذاته. كما انه غير واضح ما معنى أن يودع الفائض في الصندوق؟ متى وكيف؟ أين الخطة الإصلاحية؟
فيما سوى ذلك كيف نُرقّم هذه الفجوة؟! فالفساد والهدر مستمران، وبالتالي لا أجد حلّاً للفجوة المالية بمقتضى المشاريع التي تقدمها الحكومة.