إن تخفيض العبء الضريبي على المواطنين ذوي الدخل المحدود وزيادته على الفئات الميسورة، سيعزز التوزيع الأفضل للدخل ويساعد في ردم الهوة المتسارعة والمتفاقمة بين المقتدرين والطبقات المهمشة.
في بيئة مقسمة تساعد اللامركزية الضريبية في تحسين الامتثال الضريبي. ففي ظل الانقسام المناطقي والمذهبي قد يكون المواطنون أكثر إستعداداً لدفع الضرائب إذا رأوا فيها فوائد مباشرة لـ»مجتمعاتهم» الخاصة.
هناك حاجة لزيادة الأجور في القطاع العام وزيادة الإيرادات بشكل مدروس من خلال تحسين الجباية ومحاربة التهريب والفساد وزيادة بعض الضرائب والرسوم دون أن يؤثر ذلك على الفئات المهمشة.
إن حاجات الدولة لا تقتصر على الأجور فقط بل هناك حاجة ماسة للإنفاق على البنى التحتية والقطاعات الإجتماعية من صحة وتعليم وغيرها والتي تعود بالنفع على المواطن بشكل عام.
لا بأس في إشراك المكلفين الكبار في اتخاذ القرارات الضريبية في الموازنة وفي السياسات المالية بشكل عام. أما الترابط بين رجال الأعمال والسياسيين فيجب أن يأخذ بعين الإعتبار ما يخدم السياسة المالية.
يجب إقناع الأفراد ذوي الدخل المرتفع بأن الضرائب التي يدفعونها ستحسن من نوعية حياتهم وذلك عن طريق خلق مجتمع أكثر عدالة ومساواة وبالتالي أكثر أماناً، مما يساعد في تخفيض التوترات الإجتماعية.
إن التفاوت الهائل والمطّرد بين أفراد المجتمع يزرع بذور فوضى إجتماعية في المستقبل. ومن العلاجات ضريبة تصاعدية لحماية الفئات الفقيرة ولكن دون التأثير بشكل سلبي على قطاع الأعمال.
يجب الإبتعاد عن الشعبوية والمصالح الآنية التي غالباً ما ترفض أي زيادة ضريبية. فالسياسة الضريبية المترافقة مع إصلاحات هيكلية جذرية ستسمح ببداية جديدة لعقد إجتماعي جديد أكثر عدالة واستدامة.
في ظل النقاش الحالي الدائر حول الموازنة في المجلس النيابي وفي الأوساط الاقتصادية والشعبية والإعلامية كما بين النقابات على مختلف أنواعها، وخاصة بما يتعلق بالرسوم والضرائب، قد يكون من المفيد أن نتناول هذا الموضوع من ناحية مبدأ العقد الاجتماعي المتعلق بالسياسة الضريبية.
تعود نظريات العقد الاجتماعي إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقد ارتبطت بفيلسوفين إنكليزيين هما توماس هوبز وجون لوك والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ترتكز هذه النظرية على الفكرة الأساسية بأن الناس ارتضوا أن يعيشوا معاً ويتنازلوا عن بعض من مصالحهم الخاصة في سبيل رفاهية المجتمع وخدمته. انطلاقاً من هنا، يقبل المواطنون بدفع الضرائب مقابل خدمات عامة تقدمها الدولة لجميع المواطنين وإن كان نصيب الافراد والجماعات من هذه الخدمات لا يتناسق بالضرورة مع مدى مساهمتهم في الإيرادات الضريبية.
تسمح المنظومة الضريبية بتوليد الإيرادات لضمان قدرة الدول على تقديم خدمات عامة وبنية تحتية عالية الجودة وكذلك لإعادة توزيع الدخل والتخفيف من اللامساواة في المجتمع. بمعنى آخر يوافق الأفراد والشركات على دفع الضرائب مقابل خدمات عامة ذات نوعية جيدة تقدمها الدولة. ربّما تكون طريقة فرض الضرائب والخدمات المموّلة منها قد تكيفت بعض الشيء مع التطورات الحاصلة إن كان في مجال التكنولوجيا أو في طريقة توزيع الدخل، ولكن جوهر العقد الاجتماعي بقي كما هو ولم يتغير مع الوقت. فعندما يدفع المواطنون الضرائب، يصبح بإمكانهم مساءلة حكوماتهم عن أوجه إنفاق أموالهم.
أمّا بالعودة الى لبنان فمن الواضح أن العقد الاجتماعي يحتاج إلى تجديد بعد أن كسر، والسبب في ذلك يعود لكون المواطنين يترددون في دفع الضرائب لأنهم يعتبرون أنهم لا يحصلون على نوع الخدمات التي يجب أن توفرها الدولة. إن احتجاجات المواطنين مشروعة في المبدأ لأن الدولة اللبنانية عبر السنين توانت عن الالتزام بشكل كامل بالشق المتعلق بها في العقد الاجتماعي، وفشلت في تقديم الخدمات العامة المفروضة وبالشكل المناسب، ولو أنّ هذه الخدمات لم تكن غائبة تماماً.
كان يمكن للدولة ان تقدم خدمات أفضل على مستوى الإيرادات المحصلة، ولكن ما حال دون ذلك هو استشراء الهدر والفساد في القطاع العام والمؤسسات العامة وحتى لدى بعض المؤسسات الخاصة والأفراد الذين استغلوا الخدمات العامة لمصالح خاصة. ولكن لا يجب التذرّع بتخلف الدولة عن القيام بواجباتها على أكمل وجه في الماضي للقول بأنه لن تكون أي زيادة في الإيرادات إذا لم تقم الدولة بكل الإصلاحات الضريبية اللازمة. فالدولة لن يكون بإمكانها توفير هذه الخدمات وتحسين نوعيتها كما يجب إلا إذا حصلت على الإيرادات الكافية من خلال الضرائب. وبالتالي، فنحن ندور في حلقة مفرغة.
إن للحكومة دوراً أكبر في محاربة هذه الآفة وتقديم أفضل الخدمات للمواطن، وعلى هذا الأخير أن يساهم في هذا الشأن لأن المسؤولية مشتركة. ومن هنا يجب العمل على إيجاد مساحة مشتركة بين الحكومة ومواطنيها لإيجاد نظام ضريبي مستدام ولكسر هذه الدائرة المفرغة والذي يتطلب نهجاً متعدد الجوانب يهدف أساساً إلى استعادة الثقة في الدولة ومؤسساتها. ومن الإصلاحات والتدابير الرئيسية التي على الدولة القيام بها:
1. تحسين الشفافية والمساءلة
يجب على السلطة إطلاع الجمهور بانتظام على كيفية إنفاق ضرائبهم من خلال توفير معلومات حول تحصيل الضرائب وتوزيعها. كما يمكن للتدقيق الدوري في عمل السلطات الضريبية أن يعطي إشارة جيدة إلى المكلفين ويطمئنهم بأن أموالهم تُنفق كما وحيث يجب.
2. فرض سيادة القانون ومحاسبة المسؤولين
ان فرض سيادة القانون ومحاسبة المسؤولين على أفعالهم سيعززان أيضاً الثقة في المؤسسات العامة. مثلما ان محاربة الفساد وإحالة المسؤولين إلى العدالة نتيجة لأي إساءة استخدام لإيرادات الضرائب ستؤثران بشكل كبير في معالجة مخاوف الجمهور وجعلهم أكثر استعداداً لدفع الضرائب. وهذا بالطبع يتطلب نظاماً قضائياً مستقلاً وغير مسيس.
3. تحسين إدارة الضرائب
إن تحسين إدارة الضرائب من خلال نظام رقمي سيخفض نسبة الفساد والتهرب الضريبي ويعزز الشفافية. من المفيد جداً استغلال التطور التكنولوجي السريع لتتبع المعاملات المالية وتحفيز الشركات للانتقال إلى عمليات رسمية تحد من أي تهرب ضريبي. كذلك، فإن أي تخفيض للاحتكاك الشخصي بين المكلفين ومحصلي الضرائب سيساهم في القضاء على الرشوة والفساد.
4. نظام ضريبي عادل وعصري
يساعد النظام الضريبي العادل والعصري في تقوية وتمتين العقد الاجتماعي. إن تخفيض العبء الضريبي على المواطنين ذوي الدخل المحدود وزيادته على الفئات الميسورة سيعزز التوزيع الأفضل للدخل ويساعد في ردم الهوة المتسارعة والمتفاقمة بين المقتدرين والطبقات المهمشة. يجب إقناع الأفراد ذوي الدخل المرتفع بأن الضرائب التي يدفعونها ستحسن من نوعية حياتهم وذلك عن طريق خلق مجتمع أكثر عدالة ومساواة وبالتالي أكثر أماناً، مما يساعد في تخفيض التوترات الاجتماعية لأن التفاوت الهائل والمضطرد بين أفراد المجتمع يزرع بذور فوضى اجتماعية في المستقبل.
5. توجيه عائدات الضرائب
يجب توجيه عائدات الضرائب مباشرة نحو برامج وخدمات لها تأثير مباشر وإيجابي على رفاهية السكان، مثل الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية وتخفيف الفقر وعدم المساواة في الدخل. إن فوائد الضرائب الملموسة سيعزز العقد الاجتماعي.
6. تحسين العقد الإجتماعي
قد ينطوي ذلك على تخصيص عائدات الضرائب في البداية لأهداف وغايات محددة للمساعدة في تحسين العقد الاجتماعي في المرحلة الأولى. يمكن أن يخالف ذلك مبدأ الشمول في الموازنة بمعنى أن جميع الإيرادات يجب ان تذهب إلى الخزينة العامة دون تخصيصها لجهة معينة أو استخدام محدد. ولكن يمكن أن تكون هذه الخطوة مفيدة لفترة محدودة في سبيل مراقبة استخدام عائدات الضرائب. إن أي نجاح يحقق في هذا الإطار يؤثر في آراء المواطنين ويجعلهم أقل عرضة للتهرب من دفع الضرائب.
7. إشراك المكلفين الكبار
إن اشراك المكلفين الكبار في اتخاذ القرارات الضريبية في الموازنة وفي السياسات المالية بشكل عام من خلال استشارات موسعة، يعتبر وسيلة جيدة لجلب أولئك الذين يعارضون الضرائب في سبيل مشاركتهم في وضع السياسة الضريبية، على الرغم من أن هذا قد يشكّل خطراً إذا لم يتم التخطيط له بشكل جيد لأن عدم الأخذ بالملاحظات والاقتراحات قد يحدث ردة فعل معاكسة. وهنا يبرز موضوع الترابط بين رجال الأعمال والسياسيين الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بما يخدم السياسة المالية.
8. إصلاحات هيكلية
إن الاصلاحات الهيكلية الجذرية طويلة الأمد لمعالجة عدم الثقة قد تتطلب تغييرات في هياكل الحوكمة أو الأنظمة الانتخابية أو آليات أخرى، لأنّها وخاصة في بلد كلبنان، بتركيبته السياسية والطائفية والمذهبية المعقدة، هي من الصعوبة بمكان وقد تأخذ وقتاً طويلاً، ولا يمكن الركون اليها في المديين القصير والمتوسط.
9. اللامركزية الضريبية
في بيئة مقسمة تساعد اللامركزية الضريبية في تحسين الامتثال الضريبي. في ظل الانقسام المناطقي والمذهبي الموجود، قد يكون المواطنون أكثر استعداداً لدفع الضرائب إذا رأوا فيها فوائد مباشرة لـ»مجتمعاتهم» الخاصة. كما أنهم سيكونون في وضع أفضل لمراقبة استخدام عائدات الضرائب وللتأثير في الانتخابات على المستوى المحلي. بالطبع يجب أن يتناسق ذلك مع احتياجات الدولة المركزية والمصلحة الوطنية العليا.
١٠. إطلاق حملة توعية
وأخيراً، وبالتزامن مع كل هذه الإجراءات، سيكون من المفيد إطلاق حملة توعية عامة حول أهمية الضرائب وتحسين رفاهية المجتمع. يمكن أن يساعد هذا الجهد في تقليل التهرب الضريبي وتعزيز الشعور بالواجبات الوطنية.
كل هذه الإجراءات والإصلاحات الهيكلية المطلوبة تتطلب عملاً دؤوباً وإمكانات كبيرة غير متوفرة في الوقت الحاضر ولذلك هناك حاجة لزيادة الأجور في القطاع العام وزيادة الإيرادات بشكل مدروس من خلال تحسين الجباية ومحاربة التهريب والفساد وزيادة بعض الضرائب والرسوم دون أن يؤثر ذلك على الفئات المهمشة. كما أن حاجات الدولة لا تقتصر على الأجور فقط بل هناك حاجة ماسة للإنفاق على البنى التحتية والقطاعات الاجتماعية من صحة وتعليم وغيرها والتي تعود بالنفع على المواطن بشكل عام. في هذه الأثناء، لا يجوز القول إنه لا يجب على الدولة زيادة أي رسوم أو ضرائب على الاطلاق إلا بعد تطبيق كل التدابير المذكورة أعلاه، لأن هذا سيعرقل عملية الإصلاح مع الإقرار بضرورة مراقبة السلطة المالية ومساءلتها عن سياستها الضريبية وطريقة تطبيقها من قبل الهيئات الرقابية الحكومية والمجتمع المدني وعامة الشعب.
في الختام
على صناع السياسات الحاليين والآتين وضع الأسس الصحيحة لسياسة ضريبية تتسم بالشفافية والفعالية والمساواة من خلال وجود ضريبة تصاعدية لحماية الفئات الفقيرة، ولكن دون التأثير بشكل سلبي على قطاع الأعمال بما يدفعه إلى خارج البلاد أو الى تهرب ضريبي كبير. وفي المقابل يجب الابتعاد عن الشعبوية والمصالح الآنية التي غالباً ما ترفض أي زيادة ضريبية. سياسة ضريبية مترافقة مع إصلاحات هيكلية جذرية ستسمح ببداية جديدة لعقد اجتماعي جديد.