الطبقة السياسية اللبنانية لا تريد صندوق النقد

وصفت الأزمة الاقتصادية اللبنانية التي بدأت في عام 2019 من قبل البنك الدولي كإحدى أكثر ثلاث أزمات حدة على مستوى العالم منذ عام 1850. نناقش الأحداث التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان والأسباب وراء فشل الحكومة في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لوقف الانحدار الاقتصادي وتعزيز التعافي. ربط الأزمة بالتركيبة السياسية للتحالفات الحاكمة يجعل أي حل يتمثل في حل العقد التي تربط المصالح السياسية والاقتصادية في لبنان.

لمحة عن الأزمة

يعاني لبنان من أزمة مالية غير مسبوقة منذ أكتوبر 2019، عندما هزت البلاد احتجاجات واسعة النطاق ضد فرض ضريبة على رسائل واتساب. وأدى عدم استدامة سعر الصرف الثابت في لبنان، والعجز الخارجي والمالي الكبير، وتراكم الخسائر في القطاع المصرفي، في وقت لاحق إلى انخفاض مفاجئ في تدفق رأس المال – والذي وصفه الاقتصاديون بـ «التوقف المفاجئ»، والذي يرافقه عادة ركود اقتصادي. ونتيجة لذلك، تخلّف لبنان عن سداد ديونه الحكومية في آذار 2020، وهو أول عجز سيادي في تاريخه. استمر تضرر الاقتصاد اللبناني بفعل جائحة كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت في آب 2020، وأزمة الطاقة العالمية التي بدأها الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد ترجمت هذه الأحداث إلى انخفاض قيمة العملة اللبنانية بنسبة 98 في المائة، وتضاعف التضخم إلى الرقم الثلاثي، وغرق أكثر من ثلثي السكان اللبنانيين في الفقر.

 

مفاوضات مع الصندوق

منذ أيار 2020، شارك لبنان بشكل متقطع في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة إنقاذ تساعد في وقف تدهور الرؤية الاقتصادية الكلية وتمهيد الطريق لإجراءات الإصلاح الهيكلية الضرورية. تم توقيع اتفاق أولي على مستوى الموظفين (SLA) بين لبنان وصندوق النقد الدولي في نيسان 2022 للحصول على تسهيلات الصندوق الممددة التي تسري لفترة أربع سنوات تتضمن إعادة هيكلة القطاع المالي، وتنفيذ إصلاحات مالية، وتعزيز الحوكمة. وتنص الخطة على إطلاق 3 مليارات دولار من أموال صندوق النقد الدولي للمساعدة في تخفيف أسوأ أزمة في تاريخ لبنان. ومع ذلك، كان التقدم في تنفيذ الإجراءات المطلوبة بموجب الاتفاقية لعام 2022 بطيئًا للغاية.

السرية المصرفية

على سبيل المثال، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن قانون السرية المصرفية الذي أقرته الحكومة اللبنانية في تموز 2022 لا يتناسب بما يكفي مع متطلبات الإصلاح المالي الفعّال. وعلاوة على ذلك، أكدت بعثة من صندوق النقد الدولي التي زارت البلاد في آذار 2023 بشكل صريح أنه «كان هناك تقدم محدود في تنفيذ الحزمة الشاملة من الإصلاحات الاقتصادية». وحذر صندوق النقد الدولي من التأثيرات الطويلة الأمد لعدم القدرة أو عدم الرغبة في تنفيذ الإصلاحات الضرورية، مشيراً إلى أن مثل هذا التقاعس قد يؤدي إلى «أزمة لا تنتهي».

المقاومة السياسية

في بيئة سياسية صعبة كهذه، يبدو أن توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للتعامل مع أكثر المشكلات العاجلة التي تواجه لبنان كانت لتكون أولوية لأي حكومة. بدلاً من ذلك، قامت السلطات اللبنانية بعرقلة أي تقدم نحو برنامج مع صندوق النقد الدولي. وأعلن بعض السياسيين بشكل صريح أن البلاد قادرة على التعامل مع مشاكلها بمفردها ولا تحتاج إلى صندوق النقد الدولي أو أي جهة أجنبية أخرى. وقد تعقدت الأمور أكثر بفعل الطابع المتشعب للبرلمان اللبناني حيث تحتل سبعة عشر حزباً سياسياً مقاعد، ومن بين هذه الأحزاب، اثنا عشر تحمل خمسة مقاعد أو أقل. وقد جرى أيضاً الجدل حول أن الأحزاب السياسية المختلفة لم تكن لديها نية الشروع في برنامج صندوق النقد الدولي.

هناك سببان

لا تدعم الأحزاب السياسية الكبيرة الصفقة مع صندوق النقد الدولي لسببين رئيسيين. أولاً، قامت النخب السياسية بإنشاء اتحادات احتكارية أو مارست أشكالًا أخرى من القوة السوقية في كل قطاع رئيسي في الاقتصاد اللبناني. وتنص إصلاحات صندوق النقد الدولي على قانون للمنافسة وقانون للشراء العام من شأنهما أن يخففا قبضة السياسيين على مختلف القطاعات الاقتصادية. ثانياً، من المرجح أن تكشف الإصلاحات التي تدعو إلى رفع سرية المصارف وتحقيق المزيد من الشفافية والمساءلة عن فساد الطبقة السياسية اللبنانية. وبالتالي، قد يكون تأجيل الإصلاحات بشكل لا نهائي هو الاستجابة الأمثل للطبقة الحاكمة على أمل أن تمنحها «لعبة الانتظار» ما يكفي من الوقت للوصول إلى الموارد المستقبلية، مثل عائدات الغاز الطبيعي. في الواقع، تم انتقاد الحكومة بأنها تتقن «فن الإصلاح الوهمي»، حيث يتم الكلام عن التغييرات ولكن دون تنفيذها أبداً. على سبيل المثال، تمت الموافقة على قانوني المنافسة والشراء العام في عام 2021 ولكنهما لا يزالان يواجهان عوائق كبيرة في التنفيذ بسبب الافتقار إلى الإرادة السياسية بين النخب.

لعبة الإنتظار

عملياً، تمكنت الأحزاب السياسية المختلفة من «لعب لعبة الانتظار» من خلال توزيع أدوار مختلفة بينها بطريقة تعيق أي إصلاحات، وعندما يتم ضبطهم في هذا السلوك، يلقون اللوم على بعضهم البعض، «وهي استراتيجية قد تم تحسينها على مر العقود: إلقاء اللوم على السياسيين والفصائل الأخرى». وبدلاً من بذل أي محاولات لتحقيق استقرار الوضع، عمل صناع السياسات على تفاقم الانهيار المالي. لقد أنفقوا أكثر من 20 مليار دولار في دعم الواردات. وقد تم إنفاق جزء كبير من الاحتياطيات الأجنبية على دعم سعر الصرف للسلع المستوردة. تم إنفاق البقية على دعم قطاع الكهرباء ودفع رواتب الموظفين العموميين بسعر الصيرفة. ويسمح هذا الأخير لموظفي القطاع العام بسحب رواتبهم المعتمدة بالليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بسعر أدنى من سعر السوق، مما يستنزف الاحتياطيات. لو استخدمت الحكومة جزءاً صغيراً من هذه الاحتياطيات لتقديم المساعدة الاجتماعية بدلاً من ذلك، كان يمكن لـ 80 في المائة من الأسر اللبنانية الاستفادة من فوائد اقتصادية لمدة خمس سنوات.

الكلفة تضاعفت

تضاعفت تكاليف تأخير حزمة صندوق النقد الدولي إلى لبنان بشكل هائل نتيجة لهذه المماطلة. وفي حين قد تظهر مثل هذه التأخيرات كاستراتيجية جذابة محتملة للنخب السياسية، إلا أن التكاليف التي يتحملها السكان قد تفاقمت. والأهم من ذلك، زادت الخسائر المالية الصافية في القطاعين المالي والعام من 44 مليار دولار إلى أكثر من 72 مليار دولار. مع تأخر الحكومة في تنفيذ الإصلاحات، تراجعت قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 98 في المائة، مما أدى إلى تزايد اعتماد الاقتصاد على الدولار.

فقر وحرمان

تضررت التنمية البشرية أيضا بشكل كبير. وأظهرت الدراسات أن 70 في المائة من السكان لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية، وأن معدلات الفقر متعدد الأبعاد تضاعفت مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة. وفقاً لدراسة حديثة، أفاد 78% من الأسر اللبنانية بعدم القدرة على تدفئة منازلهم. وأصبح من الصعب الحصول على الأدوية اللازمة لعلاج الأمراض الخطيرة، وبعض علاجات السرطان غير متاحة تماماً. وفي احتجاج ملحوظ ضد الوضع الحالي، «حمل مرضى السرطان نعشاً خشبياً وحطموه، رمزاً لموتهم الناتج عن نقص الدواء وعدم القدرة على الحصول على العلاج». كما ازداد عدد الوفيات الناجمة عن حالات الغرق في البحر خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث يحاول الناس الفرار من البلاد بواسطة القوارب.

بالإضافة إلى تضاؤل الثقة في الحكومة داخلياً، أصبح المجتمع الدولي أكثر تشاؤماً إزاء قدرة الطبقة السياسية المحلية على إيجاد مخرج لمشاكل لبنان.

أمثلة دول نجحت

غالبًا ما قامت حكومات أخرى تعرضت لأزمات مالية واقتصادية بتوقيع اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي وبدأت في تنفيذ أحكامها بسرعة. على سبيل المثال، أبرمت سريلانكا مؤخراً اتفاقاً لمدة ثمانية وأربعين شهراً مع صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار لدعم سياساتها الاقتصادية والإصلاحات. وعلى عكس لبنان، تم تكوين دعم سريلانكا بسرعة بعدما أصبح واضحاً أن الإصلاحات الهيكلية ضرورية. كما استفادت بلدان أخرى أيضاً، بما في ذلك قبرص وصربيا وآيسلندا، من حزم صندوق النقد الدولي لإنعاش اقتصاداتها.

أين التشريعات؟

إذا كان هناك سؤال شرعي، فإنه يتعين طرحه حول الاتجاه الذي يسعى إليه لبنان. لقد كان الشعب اللبناني والمجتمع الدولي يأملان في اتخاذ إجراءات سريعة لحل أكثر المشكلات العاجلة في لبنان، بدءاً من تنفيذ الإجراءات السابقة المدرجة في اتفاقية SLA، والانتقال بسرعة إلى برنامج كامل في إطار صندوق النقد الدولي. ولتحقيق ذلك، تحتاج الحكومة إلى إقرار تشريعات قانونية لحلول المصارف، وإنشاء استراتيجية لإعادة هيكلة البنوك، وإجراء تقييم لكل بنك على حدة، وإجراء تدقيق للبنك المركزي، وتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة للديون والموارد المالية، وتوحيد أسعار الصرف، والموافقة على الميزانية السنوية، وإصلاح قانون السرية المصرفية.

شبه مستحيل

ومع ذلك، جعل نظام المقاومة السياسي في لبنان ذلك شبه مستحيل. لقد مر أكثر من عام على توقيع اتفاقية SLA، ولكن تم تنفيذ آخر اثنين فقط من هذه الإجراءات، وذلك بطريقة غير مرضية أيضاً. لذلك، فإن تحقيق الإصلاح الحقيقي بالنسبة للبنان ليس مجرد مسألة وضع علامات في المربعات. يحتاج لبنان إلى رئيس ورئيس وزراء وحكومة ذوي عقلية إصلاحية إذا كانوا يأملون في كسب المساعدة الدولية. ويجب أن تسير التنمية والحوكمة الجيدة جنباً إلى جنب.

(*) الدكتورة ليلى داغر هي مساعدة الرئيس لشؤون السياسات العامة وأستاذة مشاركة في الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية. تعمل كمستشارة إقتصادية للعديد من صناع السياسات منذ كانون الثاني 2020.

(**) الدكتورة سمرو ألتوغ هي أستاذة ورئيسة قسم الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، وزميلة بحث في مركز أبحاث السياسات الاقتصادية في لندن، المملكة المتحدة. تشارك حالياً بنشاط في الأوساط الأكاديمية والسياسية والاستشارية والإعلامية على المستوى الدولي والمحلي.

مصدرنداء الوطن - ليلى داغر وسمرو ألتوغ
المادة السابقةماذا يعرف اللبنانيون عن صندوق النقد والإتفاق معه؟
المقالة القادمةمصارف مرعوبة من التصفية… ومصرفيون خائفون على ثرواتهم