يجد العالم نفسه أمام لحظة حاسمة لإعادة ترميم نظام التجارة الدولية الذي لطالما مثّل رافعة للنمو والاستقرار، في خضم التحوّلات العميقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي اليوم، مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي.
وتشكل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، وتنامي النزعات الحمائية، واضطراب سلاسل الإمداد، إلى جانب التطور السريع للتقنيات الرقمية، عوامل دفعت البنية التجارية التقليدية إلى حافة إعادة التشكل.
وفي ظل هذه التحديات تبدو الحاجة ملحّة لصياغة قواعد أكثر عدالة ومرونة وشفافية، توازن بين مصالح الدول المتقدمة والاقتصادات الناشئة، وتتكيف مع متطلبات القرن الحادي والعشرين.
وأصبحت قضية العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة بشكل عام ومع شركائها التجاريين الرئيسيين وبخاصة الصين والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان واحدة من أهم القضايا الاقتصادية على جدول أعمال ترامب وقادة دول العالم.
وكان ترامب قد فرض رسوما جمركية شاملة بنسبة 10 في المئة على كافة الواردات الأميركية وبنسب أكبر على الواردات من الدول ذات الفائض التجاري مع الولايات المتحدة.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الحديث عن ضرورة التصدي للاختلالات التجارية العالمية قضية حيوية من أجل ضمان انتظام واستقرار حركة التجارة العالمية.
ويقول داني رودريك الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد إن استمرار اختلالات التجارة هو نتيجة لعالم تباين مواقف الدول بين التكامل العالمي والسيادة الاقتصادية لها.
وأوضح أن الدول التي تختار التكامل العالمي تعمل على استيعاب الاضطرابات الناجمة عن سياسات من تختار السيادة الاقتصادية.
ومن هنا تنطلق أهمية التفكير في مستقبل النظام التجاري العالمي، وكيف يمكن إعادة بنائه ليصبح أكثر قدرة على دعم التنمية المستدامة وحماية الاستقرار الاقتصادي العالمي.
وفي تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية لتقريب الصورة أكثر افترض المحلل الاقتصادي مايكل بيتيس حكومة تحقق فوائض من خلال انتهاج سياسات تدعم التصنيع على حساب الإنفاق الاستهلاكي، من خلال خفض الفائدة على قروض المصنعين، أو بخفض قيمة عملتها، أو بدعم البنية التحتية للنقل.
وقال الباحث المشارك في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي “في هذه الحالة ما لم يقاوم شركاؤها التجاريون بسياسات معاكسة، فإنهم سيضطرون إلى استيعاب هذا الفائض إما بزيادة الاستثمار المحلي، أو زيادة الاستهلاك، أو ارتفاع البطالة، أو مزيج من هذه النتائج.”
ويؤكد بيتيس صحة هذا التصور بغض النظر عن مدى قوة الشركاء التجاريين. فالولايات المتحدة، مثلا، لديها أكبر اقتصاد في العالم. ولكن بسبب انفتاح سوقها، أعادت الصين هيكلة اقتصادها جزئيا، بدعم مصانعها بشكل كبير للاستفادة من السوق الأميركية الضخمة.
ومع ذلك لا يعني هذا أن تغلق الدول أبوابها أمام التجارة الدولية، فالناس يستفيدون من التجارة. ولكن للتأكد من أنها تخدم مصالحهم، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها إنشاء نظام يقلل من قدرة الدول على التخلص من تكلفة سياساتها الاقتصادية المحلية.
ويرى بيتيس أن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي إنشاء اتحاد جمركي عالمي جديد يتفق أعضاؤه على الحفاظ على تجارتهم متوازنة وحرة نسبيا، مع وضع حواجز ضد الدول التي ترفض موازنة الصادرات مع الواردات.
في الوقت نفسه سيظل في إمكان أي حكومة من حكومات الدول الأعضاء في مثل هذا الاتحاد، اختيار دعم أنواع معينة من الاستثمار والتصنيع، ولكن فقط إذا كانت قادرة على استيعاب التكاليف الناتجة عن ذلك بنفسها دون أن تمررها إلى شركائها التجاريين.
ولكي تنجح التجارة العالمية، يجب على كل دولة الحفاظ على سيادتها الاقتصادية. وإلا، سيكون لدى الدول حافز قوي للغاية لتصدير مشاكلها الاقتصادية من خلال سياسات إفقار الجار.
في عالم مفتوح وخال من سياسات الائتمان الموجه، والتحكم في أسعار الصرف وفرض قيود على رأس المال، لن تنتقل اختلالات التوازن الاقتصادي في بلد ما بسهولة إلى خارجه
كما يجب أن تكون الاختلالات الاقتصادية الداخلية لأي دولة متسقة دائما مع اختلالاتها الخارجية، وخاصة للشركاء التجاريين. فالدول التي تتحكم في رؤوس أموالها وميزانها التجاري تستطيع تصدير تكاليف سياساتها المحلية إلى الخارج.
وعلى سبيل المثال، اختارت ألمانيا معالجة البطالة المحلية في التسعينيات من خلال ما عرفت باسم إصلاحات هارتز للفترة 2005 – 2003، التي قيدت نمو الأجور مقارنة بالإنتاجية.
وقلل هذا من حصة العمال الألمان في الناتج المحلي الإجمالي مقابل دعم أرباح الشركات بشكل كبير، مما أدى إلى انكماش الاستهلاك، بينما توسع قطاع التصنيع وارتفعت فوائض الميزان التجاري بشكل كبير مع تضخم أرباح المنتجين.
وفي الوقت نفسه تحكمت ألمانيا في اليورو بفعالية، بفضل هيمنتها على البنك المركزي الأوروبي، مما اضطر شركاتها في الاتحاد الأوروبي إلى استيراد جميع فوائضها تقريبا.
ومع استمرار العجز التجاري لهذه الدول، اضطرت اقتصاداتها إلى التأقلم، أحيانا بزيادة الاستثمار، بما في ذلك في فقاعات العقارات، وأحيانا أخرى بارتفاع معدلات البطالة أو تزايد ديون الأسر أو الحكومات.
وتكرر هذا السيناريو تقريبا بين الصين والولايات المتحدة في نفس الوقت تقريبا. بين عامي 2002 و2010، عندما طبقت بكين أسعار فائدة حقيقية سلبية لإنعاش النظام المصرفي المثقل بالقروض المتعثرة، وانخفضت حصة الأسر والاستهلاك بنحو 48 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في بداية القرن إلى 34 في المئة بحلول عام 2011.
في المقابل ارتفعت المدخرات الصينية والفائض التجاري بشكل كبير، إلى جانب التصنيع، الذي تم تنشيطه برأس مال رخيص للغاية.
وتم توجيه معظم مدخرات الاقتصاد الصيني الفائضة إلى الولايات المتحدة من قبل بنك الشعب (المركزي) الصيني، حيث راكم كميات هائلة من سندات الخزانة الأميركية لدعم احتياطياته.
وبضخ الأموال في هذه السندات، وفرضها ارتفاعا في قيمة الدولار مقابل اليوان، أجبرت الصين الولايات المتحدة أيضا على تسجيل عجز تجاري مماثل.
كما أدى ذلك إلى تغييرات في الاختلالات الاقتصادية الداخلية للولايات المتحدة. وتسربت الصناعات التحويلية الأميركية إلى الصين، وأغلقت المصانع في الولايات المتحدة خطوط الإنتاج وسرحت العمال.
ويقول بيتيس في شرحه لفكرة الاتحاد الجمركي العالمي أنه في عالم مفتوح بالفعل، وخال من سياسات الائتمان الموجه، والتحكم في أسعار الصرف وفرض القيود على حركة التجارة ورأس المال، لن تنتقل اختلالات التوازن الاقتصادي في بلد ما بسهولة إلى خارجه.
وبدلا من ذلك، سيميل الاقتصاد المحلي إلى التصحيح الذاتي مع تعديل أسعار الصرف التي تحددها السوق، وتدفقات رأس المال، وأسعار الفائدة بطرق تعكس الاختلالات الداخلية.
وفي مثل هذا العالم، ستكون التجارة متوازنة على نطاق واسع، حيث تسعى الدول إلى تحقيق مزايا نسبية وتصدر لدفع ثمن الواردات التي تعظم الرفاهية المحلية.
ولكن ما يحدث الآن هو أن بعض الاقتصادات الكبرى تتدخل بقوة في حركة تجارتها ورؤوس أموالها، مما ينتج عنه فوائض مستمرة نتيجة تشوهات في الطلب والإنتاج المحليين، بينما لا تفعل اقتصادات أخرى ذلك.
وقال بيتس “فلا عجب إذن أن يكون النظام التجاري الحالي مضطرب بهذا الشكل.” ويرى أنه للحفاظ على نظام عالمي مستقر وعادل، يجب على صانعي السياسات إدراك أن التجارة المشتركة تنطوي على قيود مشتركة.
كما الضرورة تقتضي على جميع الاقتصادات الكبرى قبول قيود مماثلة على قدرتها على إدارة الائتمان والعملات والحسابات الخارجية.
وبمعنى آخر، فإن على العالم صياغة نظام تجاري جديد يجبر كل عضو على معالجة اختلالاته الخارجية داخليا، كما اقترح الاقتصادي جون ماينارد كينز في عام 1936.
لكن حتى الآن، لم تبد الدول رغبة تذكر في تشكيل مثل هذا التحالف، بل إنها بدلا من ذلك، تتبنى سياسات “إفقار الجار” التي حذرت منها الاقتصادية جوان روبنسون عام 1973 عندما أوضحت أن الغرض الرئيسي من الفوائض التجارية هو تفريغ البطالة الناتجة عن ضعف الطلب المحلي.
وعلى سبيل المثال، تعمل الولايات المتحدة الآن بقوة – وإن لم تكن فعالة جدا – لخفض عجزها التجاري بفرض رسوم على الواردات، لترد الدول أخرى بإجراءات انتقامية خاصة بها فيعاني النظام التجاري العالمي من مخاطر جمة.
وسيحقق الاتحاد الجمركي العالمي المأمول التوازن التجاري مع الدول غير الأعضاء من خلال اعتماد حواجز تجارية متغيرة، إما في شكل تعريفات جمركية أو ضرائب على تدفقات رأس المال.
وفي حال تطبيق هذه الفكرة سيتم ضمان عدم انتقال اختلالات الدول غير الأعضاء إلى الاتحاد الجمركي. ولن تكون هذه الإجراءات عقوبة سياسية، بل إجراءات قائمة على القواعد بين شركاء التجارة.
ويعتقد بيتيس أن المبدأ الكامن وراء هذا الاتحاد هو أن مكاسب التجارة تكون أكبر عندما تكون تدفقات التجارة متبادلة ومستدامة. وذلك لأن الفوائض المستمرة والمصممة وفقا للسياسات التي تستهدف تعزيز حصة الصناعة التحويلية لبلد ما عن طريق قمع نمو الأجور.
وعلى سبيل المثال، لا تعظم الناتج العالمي، وإنما تؤدي إلى معاناة الشركاء التجاريين من ارتفاع معدلات البطالة أو معدل الديون، وهو ما لا يمكن أن يكون مفيدا لأي طرف على المدى البعيد.



