شكَّلَ الوجود السوريّ في لبنان مادة سجال دسمة لعقود، إن على المستوى السياسي والأمني أو الاقتصادي لاسيّما لجهة اليد العاملة التي لطالما وُصِفَت بأنها تنافس اليد العاملة اللبنانية، حتى قبل الثورة السورية وما نتج عنها من نزوح تخطّى المليونَيّ سوري. ومع هروب الرئيس المخلوع بشار الأسد، بقي السجال قائماً حول اليد العاملة السورية في لبنان لكن من زاوية مختلفة، وهي مصير هذه اليد العاملة وانعكاسها على القطاعات الاقتصادية اللبنانية التي تعتمد على العمّال السوريين.
وجود تاريخي في لبنان
لا يرتبط وجود العمّال السوريين في لبنان بنزوحهم الذي رافقَ الثورة السورية، إذ أن وجودهم مألوف خصوصاً في القطاع الزراعي اللبناني، فيشكِّل السوريون نحو 90 بالمئة من العاملين في القطاع. كما أنّهم يعملون في قطاعات أخرى، منها قطاع البناء وقطاع المطاعم والمؤسسات السياحية.
وفي غمرة النقاش حول ما إذا كانت عودة السوريين إلى بلادهم إثر سقوط نظام الأسد ستترك شحّاً في اليد العاملة السورية في لبنان، لا يجد رئيس جمعية المزارعين انطوان حويِّك أن الأمر يستحق الكثير من الجدل. فاليد العاملة السورية “موجودة في لبنان قبل كل الأزمات سواء في لبنان أو سوريا”. ويشير في حديث لـ”المدن” إلى أن عودة السوريين إلى بلادهم بعد سقوط النظام “لا تعني أن الجميع سيخرج من لبنان. فكما دَخَلَ سوريون للعمل في لبنان، سيدخل آخرون يجدون أنّهم بحاجة لعمل”.
بالتوازي مع القطاع الزراعي، لا يجد الأمين العام لاتحاد النقابات السياحية جان بيروتي أن سقوط الأسد وعودة السوريين إلى بلادهم ستُفرِغ سوق العمل اللبناني من اليد العاملة السورية، ويرى في حديث لـ”المدن” أن وجود السوريين في لبنان قديم جداً “ويرتبط بمستوى الدخل الذي يجنيه العامل السوري في لبنان، وهذه المقاربة ستبقى موجودة إلاّ إذا تغيَّر مستوى الدخل في سوريا”.
انتظار مستوى الدخل
ارتباط مسألة وجود اليد العاملة السورية في لبنان بمستوى الدخل، هو جوهر النقاش بالنسبة لبيروتي وحويِّك، وهكذا سيبقى بانتظار ما ستؤول إليه الأحوال في سوريا ولبنان، تحديداً على المستوى الاقتصادي. وعلى مستوى القطاع السياحي تحديداً “لن ينعكس خروج اليد العاملة السورية من لبنان على المؤسسات السياحية والمؤسسات ستجد يداً عاملة من جنسيات أخرى للقيام بالأعمال التي يقوم بها السوريون”.
ولا يتوقَّع بيروتي تأثُّر قطاع المؤسسات السياحية في حال نقص اليد العاملة السورية “لأن وجودهم في هذه المؤسسات ليس بالحجم الكبير الذي قد يؤثِّر على المؤسسات“. وفي جميع الأحوال، المطلب الأساس الذي تريده المؤسسات السياحية “هو بناء البلد، أي نريد الصنّارة وليس السمكة”. ويقول بيروتي أنه “إذا حصل الاستقرار في لبنان سنصبح فوق الريح، وإلاّ فلن يكون هناك بلد لنسأل عن أي يد عاملة فيه”.
في المقلب الآخر، إذا استتبَّت الأمور في سوريا وبات مستوى الدخل أفضل أو يوازي مستوى دخل السوريين في لبنان، سيتأثّر القطاع الزراعي اللبناني، وفي هذه الحالة يتوقَّع حويّك “حصول نقص في اليد العاملة السورية رغم احتمالات بقاء عدد كبير من السوريين في هذا القطاع”. لكن هذا الاحتمال “لن يكون في المستقبل القريب جداً. لأن المطلوب أولاً هو هدوء الأحوال في سوريا وانتظار وضع خطة اقتصادية وتطبيقها ونجاحها. وبشكل عام، كل شيء وارد لكنه بحاجة للوقت”.
باقون في لبنان؟
بانتظار الإجابات النهائية للتساؤلات المطروحة حول اليد العاملة السورية في لبنان، والمرتبطة بما ستستقرّ عليه أحوال لبنان وسوريا في المدى القريب، يجد أحمد، وهو عامل سوري أتى إلى لبنان في العام 2011، أن العمال السوريين “سيبقون في لبنان لأن فرص العمل متوفّرة حالياً أكثر ممّا هي عليه في سوريا”. وإلى حين بروز متغيِّر اقتصادي جاذب للسوريين للبقاء والعمل في بلادهم “لن نخرج من هذا البلد (لبنان)”. ويشير إلى أن البقاء في لبنان هذه المرّة “سيكون بطريقة إيجابية وقانونية انطلاقاً من سيادة لبنان وبعيداً من النفوذ الظالم للنظام المخلوع الذي شوَّهَ صورة السوريين أمام اللبنانيين”.
أحمد الذي يعمل في الزراعة والبناء، يؤكِّد لـ”المدن” أن الأحوال في سوريا “لا تسمح اليوم بالاستقرار هناك سريعاً، خصوصاً لمن لديه عائلة وأولاد”. ويتمنّى أحمد العودة والاستقرار في سوريا إذا توفّرت الظروف الملائمة “لكن لقمة العيش هي التي تحدِّد أي سنستقرّ. والاستقرار حيث فرص العمل هو أمر طبيعي وموجود في كل دول العالم”.
منذ 13 عاماً، يقارب اللبنانيون الوجود السوري في بلادهم من زاوية التأثيرات التي يتركها عددهم الهائل، خصوصاً وأن دخولهم وخروجهم غير منظَّم وعددهم غير نهائي، لكنه يدور في فلك الـ2 مليون نازح. فعلى سبيل المثال، أعلن المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، في 25 تشرين الأول 2022 أن عدد السوريين في لبنان 2 مليون و80 ألف نازح، فيما أعلن صاحب شركة ستاتيستيكس ليبانون ربيع الهبر، في 29 آذار 2023، أن عددهم وصل إلى 2 مليون و42 ألفاً. ومع سقوط النظام وفتح المجال أمام العودة بأمان، يشير الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين، إلى أنه عاد إلى سوريا نحو 420 ألف نازح وبقي في لبنان نحو 1 مليون و500 ألف نازح. إلاّ أن عودة البعض إلى سوريا لا تعني حتى الساعة خروج جميع النازحين وبقاء اليد العاملة التي يحتاجها الاقتصاد اللبناني. ومن هنا، على الدولة اللبنانية مقاربة الوجود السوري بعد سقوط الأسد، من زاوية حاجة الاقتصاد اللبناني لهم.