أكثر من ثلاثة أشهر مضت على وقف إطلاق النار، وأكثر من شهر على الانسحاب الإسرائيلي، إلّا أنّ بوادر إعادة الإعمار لم تظهر حتى الساعة وسط غموض موقف الجهات المموّلة، وعلى رأسها الدول العربية التي لم تبادر حتى الساعة للإعلان عن المُساهمة في هذ الموضوع.
عن الجمود في ملف إعادة الإعمار، يقول نقيب المقاولين في لبنان المهندس مارون الحلو لـ “نداء الوطن”: “إعادة الإعمار موضوع ينتظر بالطبع قراراً من الحكومة ومن الجهة المكلّفة دراسة هذا الملف بسبب الإمكانيات الماليّة الضئيلة للدولة اللبنانية أو بالأحرى المعدومة عملياً، لأنّ التمويل أساس نجاح عملية الإعمار”.
منهجية ورؤيَة… واتصالات
يُضيف: “كنقابة نتمنّى أن يتمّ هذا النشاط بالشراكة مع القطاع الخاص أيّ بين نقابتي المقاولين والمهندسين كي نتمكّن من التعاون لتنفيذ استراتيجية الحكومة”، مُعرباً عن تصوّره بأن “الحكومة ستضع في وقت قريب منهجيّة ورؤيَة حول عملها في المرحلة المُقبلة وتقوم على أساسها باتصالات مع العربية والدولية كالبنك الدولي والبنك الإسلامي والصندوق العربي وصندوق النقد الدولي، للبحث في المساعدات والقروض الميسّرة المتاحة، كي تبدأ بعدها بالتخطيط لمرحلة الإعمار.
لا أتوقّع أن يحصل هذا الأمر بشكل سريع بل يحتاج إلى أشهر، وربما يستغرق كل ولاية هذه الحكومة. وقد يُصار إلى تحضير الأرضية، لكن التنفيذ لن يبدأ قبل أن تصل كل الإمكانيات الماديّة والدراسات المطلوبة. الجميع يعلم أن البلد مترهّل كلياً خاصة البنى التحتية منه، هذا عدا الأضرار التي لحقت بالضاحية الجنوبية لبيروت والمنازل السكنية في جنوب لبنان والبقاع وبعلبك”.
مَن سيُشارك في الورشة؟
عن الدول التي ستساهم في إعادة الإعمار، يُجيب الحلو: “مبدئياً المساعدات تأتي بشكل أساسي من المملكة العربية السعودية وقطر، كما حُكِيَ عن مؤتمر دولي سيُعقد في باريس من أجل إنشاء صندوق لهذه المشاريع، لكن كل هذا ينتظر خطة الحكومة. كل ما يقال يبقى في خانة التكهنات وكلام إعلامي لكن الحقيقة تصدر عن الحكومة. وبالتالي هذا الموضوع سيأخذ حيّزاً من الوقت لتحضير المشاريع اللازمة ودراستها وتأمين التمويل لها. حتى اليوم، أعطى البنك الدولي مليار دولار أميركي للبنى التحتيّة في الضاحية الجنوبية، لكن الخطة الشاملة لم تظهر بعد”.
ويُشدّد الحلو على أن “إعادة الإعمار بشكل كامل يحتاج إلى وقت. فإعادة إعمار ما تهدّم أمر وإعادة تأهيل البنى التحتية لكل لبنان أمر آخر. فقد مضى وقت طويل لم يصرف لبنان من ميزانيته على البنى التحتية والتي تُعتبر أساسية لتطور البلد ونموّه اقتصادياً بكل معنى الكلمة. وهذا الأمر محطّ اهتمام العديد من الدول، وتستأهل أن تبادر الدولة أو أحد داعمي لبنان كفرنسا مثلاً أو الولايات المتحدة الأميركية أو المملكة العربية السعودية إلى الدعوة إلى اجتماع موسّع من أجل دعم إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية في لبنان”.
أين أصبح رفع الردم؟
عن عملية رفع الردم، يؤكّد الحلو أنّ “الحكومة السابقة قامت كمرحلة أولى بإجراء مناقصات لإزالة الركام. وهذا بدأ في الضاحية الجنوبية ومستمر، لكن في البقاع والجنوب مجمّد لأن أحداً لم يتقدّم من المقاولين لأن الأسعار جدّاً متدنية، وفي البقاع أتصور أن هيئة الإغاثة المسؤولة عنها وليس لدي معلومات تفصيلية إذا ما حصلت أي مناقصة وبدأ العمل لكنني أعتقد أنه لم يبدأ. وبالتالي العملية ما زالت بطيئة، وإذا لم تحرّك الحكومة كل هذه الأمور، فإن الأمور ستستغرق المزيد من الوقت”.
ويختم الحلو: “ننتظر آليّة الحكومة كي نتحرّك من خلالها. بالطبع هناك موجة تفاؤل في البلد بعد انتخاب رئيس الجمهورية وخطاب القسم والبيان الوزاري، كما أنّ الحكومة أعطت نفحة إيجابية، ولذلك آمل أن يسرّعوا في المرحلة المقبلة الأمور، خاصة في موضوع الإعمار لأن من شأنه إراحة كل اللبنانيين”.
قلقٌ
من جهته، الخبير في المخاطر المصرفية محمد فحيلي يُعبّر عن قلقه العميق تجاه “عدم الانطلاق بإعادة الإعمار في لبنان، في ظلّ حالة الشلل التي تُحيط بالملف، بحيث لم يتم إجراء مسح شامل وتقييم للأضرار الناتجة عن الحرب حتى الآن، ولم يتم إنشاء هيئة إعادة إعمار، بينما ينتظر اللبنانيون خطة إنعاش موثوقة وفعالة، ولا بد من إرساء استراتيجية إعادة إعمار، مع الحاجة الملحة إلى نهج منظم وشفاف وخاضع للمساءلة لإعادة إعمار شفافة وفعالة في لبنان”.
سلسلة اقتراحات
ويتقدّم فحيلي بسلسلة من الاقتراحات في هذا السياق، أوّلها “الحاجة إلى مسح وتقييم مستقلّ وموثوق للأضرار، إذ لا يُمكن لأي بلد أن يُعيد بناء نفسه من دون أن يفهم أولاً المدى الكامل للدمار. تتراوح التقديرات الحاليّة بشأن الأضرار التي لحقت بالوحدات السكنية والشركات والمستشفيات والبنية التحتية والأراضي الزراعية من 9 مليارات دولار إلى 20 مليار دولار. لكن، هذه الأرقام تفتقر إلى الوضوح والمنهجية والمصداقية الدولية. من دون مسح وتقييم مستقل للأضرار في كل قطاع ومنطقة، لا يمكن للحكومة اللبنانية التواصل مع المانحين الدوليين أو المؤسسات المالية بثقة”، مطالباً رئاسة الجمهورية والحكومة بـ “التكليف بإجراء مسح وتقييم شامل ومستقل للأضرار من قبل هيئات ذات مصداقية مثل الشعبة الهندسية في الجيش اللبناني أو شركات هندسيّة وماليّة مستقلة”.
أما الحاجة الثانية فهي “إنشاء هيئة إعادة الإعمار لأن لبنان لا يستطيع الاعتماد على الارتجال السياسي بعد الآن. لا يمكن التعامل مع إعادة الإعمار من خلال القنوات السياسية القائمة التي فشلت مراراً وتكراراً في تحقيق النتائج. يحتاج لبنان إلى هيئة إعادة إعمار وإنعاش غير سياسية ومستقلة تكون مسؤولة عن:
مسح وتقييم وتصنيف الأضرار في جميع القطاعات المتضررة، وضع خطة منظمة لإعادة البناء بالتنسيق مع الوزارات ذات الصلة والشركاء الدوليين، الإشراف على الشفافية المالية في كيفية تأمين الأموال وتخصيصها وكيفية إنفاقها، ضمان المصداقية، وفق المعايير الدولية، من خلال الحفاظ على المساءلة الكاملة وتجنب سوء الإدارة”، مشيراً إلى “التجارب الناجحة للعديد من البلدان التي واجهت أزمات مُماثلة في تنفيذ مثل هذه المشاريع على غرار أوروبا ما بعد الحرب، وتركيا ما بعد الزلزال، واليابان في مرحلة ما بعد كارثة تسونامي”.
ويتطرق فحيلي إلى الحاجة الثالثة لإعادة الإعمار، ألا وهي “نهج مالي مسؤول. ويمكن أن يؤدي تمويل إعادة الإعمار، إذا أحسنّا إدارته، إلى تجنب عدم الاستقرار النقدي والكوارث الاقتصادية. إذ من دون إشراف مناسب يمكن أن يؤدي التدفق المفاجئ للأموال الأجنبية – إن لم يكن تحت أعين ورقابة السلطة النقدية – إلى زعزعة استقرار سعر الصرف وتفاقم التضخم. كذلك، بات الجميع يعلم أن الدولة لم تكن مسؤولة عن الحرب، ولكن من الضروري أن تتحمل مسؤولية إعادة الإعمار لتفادي الزبائنية السياسية، والعشوائية في مقاربة إعادة الإعمار. ويجب أن تتدفق أموال التمويل عبر القنوات الرسمية:
من الدول المانحة إلى حساب الدولة اللبنانية في مصرف لبنان، ومن ثم تُصرف من خلال المصارف التجارية وباعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال هذه المؤسسات وليس نقداً. كما أن سوء التخطيط الاقتصادي قد يفشل في توزيع مزايا إعادة الإعمار بشكل عادل، مما يؤدي إلى مزيد من الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية”.
العامل البيئي
ويتحدّث فحيلي عن العامل البيئي كحاجة رابعة يجب أنْ تؤخذ في الاعتبار، لافتاً إلى ضرورة “إزالة الأنقاض وردميات الحرب بشكل مسؤول وإعادة البناء المستدام.
أحد أكثر جوانب إعادة الإعمار التي يتم تجاهلها هو التأثير البيئي لإزالة الأنقاض. إن إزالة ردميات الحرب ليست مجرد مشكلة لوجستية، إذا تم التعامل معها بشكل غير مسؤول، فقد تؤدّي إلى تدهور بيئي شديد، والتعرض للنفايات الخطرة، وعواقب طويلة الأجل على الصحة العامة”.
لذا، يشدد على “أهمية أن تتخذ الحكومة خطوات في السياق منها “تنفيذ استراتيجية إعادة تدوير الردميات، باتّباع أفضل الممارسات العالمية في جهود التعافي المستدامة، التأكد من التخلص من المواد الخطرة بشكل صحيح وعدم إلقائها بشكل عشوائي وغير مسؤول، إعطاء الأولوية لاستخدام مواد البناء الصديقة للبيئة في عملية إعادة البناء”، معتبراً أنّ “إعادة الإعمار لا ينبغي أن تعيد الماضي فحسب، بل يجب أن تبني أيضاً مُستقبلاً أكثر مرونة واستدامة”.
ويشدّد على أن “لبنان يقف على مفترق طرق. ولن يؤدي استمرار التقاعس إلّا إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية. يجب على الحكومة اتّخاذ خطوات عاجلة وجريئة ومسؤولة من أجل:
– إجراء مسح وتقييم كامل وشامل ومستقل للأضرار.
– إنشاء هيئة لإعادة إعمار مستقلة، على أن تكون ملحقة مباشرة برئاسة الجمهورية.
– تنفيذ إطار مالي مسؤول وشفاف لإدارة أموال إعادة الإعمار تفادياً لعودة الضغوطات التضخميّة وعدم الاستقرار النقدي والاقتصادي.
– معالجة الأثر البيئي لإزالة ردميات الحرب ومقاربة إعادة البناء بمسؤولية”.
يختم فحيلي: “سيؤدّي الفشل في التحرّك إلى فقدان المصداقيّة الدوليّة وإهدار الموارد الماليّة والمعاناة المطولة للشعب اللبناني. لقد انقضى وقت المناقشة وحان وقت العمل”.