مقابل إنحصار همّ المسؤولين بالبحث عن طرق لزيادة الرسوم والضرائب لابقاء «مُلكهم» على قيد الحياة، «يموت» الشعب من الجوع. جشع المنظومة وفسادها تخطّيا ظلم «الملك غيبون» في رائعة الرحابنة «ناطورة المفاتيح». فهي لا ترضى بـ»مشاركة الناس في نصف ما يملكون» فقط، إنما تطمع حتى بـ»خطف أنفاسهم»، ولو لم يبق أحد في البلد. فالغالبية العظمى ترغب في الهجرة في ما لو أتيحت لها الفرصة، أو توفّرت، أقله، جوازات السفر.
بعد نحو سنة من البحث والاحصاء والتحليل قدّم تقرير «تطوير السياسات المبنية على الأدلة في إدارة الازمات: حالة لبنان» أدلة لا يمكن إنكارها عن الزيادة المروعة في مستويات الفقر. التقرير الذي أعده فريق من الباحثين في الجامعة الاميركية في بيروت بقيادة د. ليلى داغر، وبدعم من الصندوق الوطني للديمقراطية، يظهر كيفية مواجهة 931 أسرة تعمل في 7 قطاعات مختلفة (الزراعة، التعليم، البناء، الاغذية والمشروبات، الصحة، الصناعة والتجزئة) في 19 قضاء للإنهيار بـ»اللحم الحي»، أو ما يعرف تقنياً بـ»التكيّف السلبي». حيث اضطرت أغلبية شرائح المجتمع إلى تخطي بعض الوجبات الغذائية خلال اليوم، وإلغاء التأمين الصحي، وتخفيض معدلات تدفئة المنازل، والتخلي عن الفواكه والخضار، وتقليل استخدام الأدوية المزمنة أو التوقف عن تناولها عمداً… وغيرها الكثير من الاساليب لتوفير الانفاق من المداخيل المحدودة جداً.
الطاقة تمتص نصف المداخيل
تمثل الطاقة بحسب التقرير العبء الأكبر على العائلات. إذ أنفق أكثر من ثلثي الاسر، في القطاعات السبعة، أكثر من 50 في المئة من دخلها على الطاقة. ذلك مع العلم أن دخل النسبة الاكبر من العائلات في مختلف الاقضية التسعة عشر، يتراوح بحسب التقرير بين 1.2 مليون ليرة و5 ملايين، أي ما بين 30 دولاراً و125 دولاراً على سعر صرف السوق الموازية اليوم. وباستثناء القاطنين في قضاءي الكورة وبعبدا اللذين تتخطى فيهما نسبة العائلات التي يزيد دخلها عن 10 ملايين ليرة 50 و24 في المئة على التوالي، فإن نسبة العائلات التي يزيد دخلها عن 10 ملايين ليرة في بقية الاقضية لا تتخطى 15 في المئة.
تدهور الاجور
الأمور لم تقف عند تراجع القيمة الشرائية للمداخيل إنما تعدتها إلى إنخفاضها في كل القطاعات. حيث يُظهر الاستبيان أن 57 في المئة من العاملين في مجال البناء خُفّضت أجورهم، مقابل 20 في المئة فقط في قطاعي الاغذية والصناعة. وبالمتوسط العام فقد خفضت الاجور بنسبة 30 في المئة للعاملين في القطاعات السبعة. كما أن نسبة المستخدمين الذين خفضت ساعات عملهم بلغت بالمتوسط 34 في المئة، وبلغت حدها الاقصى في قطاع البناء، متجاوزة نسبة 53 في المئة.
الغالبية العظمى من الاسر في القطاعات السبعة المستهدفة ليس لها وصول إلى الدولار الفريش من المهن التي تمارسها. وعلى الرغم من أن القطاع الخاص بدأ يدفع جزءاً من الرواتب بالدولار الاميركي، فان نسبة الذي يحصلون على دولارات طازجة بلغت بالمتوسط 8 في المئة فقط. فمثلاً يحصل 20 في المئة من العاملين في القطاع الصحي على جزء من راتبهم بالدولار النقدي. فيما تنخفض هذه النسبة إلى 7 في المئة في التعليم، 8 في المئة في البيع بالتجزئة، 5 في المئة في البناء، 8 في المئة في الصناعة و4 في المئة في قطاع الاغذية والمشروبات.
إذا ما أضفنا هذه المعطيات المتعلقة بانهيار الرواتب والاجور، إلى النسبة التي فقدت وظائفها خلال أعوام الازمة، والمقدرة بحسب التقرير بـ 29 في المئة، نستطيع الاستنتاج بسهولة سبب رزوح أكثر من 80 في المئة من العائلات تحت خط الفقر.
الامور تزداد سوءاً
الصادم، أن «نتائج التقرير الصادر مؤخراً مبنية على استطلاع أجري في آذار الماضي، عندما كان الوضع الاقتصادي والقوة الشرائية لمداخيل العائلات اللبنانية أفضل بكثير مقارنة بالوقت الحاضر»، تقول معدة التقرير د. ليلى داغر. وللمثال فقط، فان سعر صرف الدولار مقابل الليرة كان حوالى 13 ألف ليرة في آذار 2021، فيما يتخطى اليوم عتبة 38 ألف ليرة. وأسعار المحروقات كانت أقل بـ 17 ضعفاً. حيث كان سعر صفيحة البنزين حوالى 40 ألف ليرة، مقارنة مع 700 ألف ليرة اليوم، وسعر صفيحة المازوت نحو 30 ألف ليرة مقارنة مع 848000 ألف ليرة اليوم. وعليه كانت مستويات التضخم أقل بكثير مما هي عليه في الوقت الحاضر.
وبحسب داغر فان «خطورة هذه المقارنة تُظهر حجم التدهور السريع والكبير يوماً بعد آخر. الامر الذي يحتم على الحكومة إعطاء الأولوية للسياسات التي تستهدف الحد من الفقر، تحديداً في ما يتعلق بالسياسات التي تعزز الأمن الغذائي وتقوي شبكات الأمان الاجتماعي». إلا أنه لسوء الحظ، فان الحكومة أهدرت أموالاً قيمة على مخططات الدعم المضللة، خلال الفترة الماضية، ولم يتبق لديها موارد للمساعدة الاجتماعية من جهة، ومن جهة اخرى فان الاعتماد على المساعدات الدولية سواء كان من الحكومات الاجنبية او الدول المانحة من أجل توسيع برامج المساعدة الاجتماعية، «يتطلب الدخول أولاً في برنامج مع صندوق النقد الدولي»، تؤكد داغر، و»عليه فان الاتفاق على خطة يوافق عليها صندوق النقد الدولي أمر لا بد منه، ويجب على الحكومة العمل بلا هوادة في هذا الاتجاه للنجاح في تأمين التمويل اللازم لمحاربة الفقر».
كل يوم تأخير إضافي في البدء بالحلول الاقتصادية يترجم بشكل مباشر إلى خسائر أكبر ومزيد من الفقر. وبحسب داغر «سنرى المزيد من الأطفال يعانون من الجوع والمزيد من العائلات تبحر في قوارب غير آمنة للفرار من حياتهم البائسة». ولذلك ينبغي تحميل سياسيينا المسؤولية، ومحاسبتهم عن أي كوارث تحدث بسبب التأخير في تنفيذ الإجراءات السابقة المتفق عليها في الاتفاق الذي تمّ على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي.