مع أنّ مجلس الوزراء أجّل في جلسته الأخيرة النقاش في زيادة السبعة أضعاف المقترحة من وزير الإتصالات جوني القرم على تعرفة الإشتراك الشهري لخطوط الهاتف الأرضية وخدمة الإنترنت DSL، ثمّة مؤشرات واضحة تدل على أنّ المقترح لا يزال قائماً، وتطبيقه ينتظر تحضير الأرضية المناسبة لـ”تبليع” اللبنانيين الزيادة الجديدة، قبل أن تُهضم زيادة الضعفين والنصف التي لم يمض على تطبيقها حتى الآن عام واحد.
«لا مفرّ من تعديل التعرفة، وإلّا ستستمرّ الخسارة وسنحتاج إلى الدعم وفي الحالتين ستموّل هذه الزيادة من جيوب الناس. وهذا ما يجعل إتخاذ القرار سياسياً بالدرجة الأولى»، يقول الوزير القرم وإذ يعتبر في تصريح لـ”نداء الوطن” أنّ «الدعم هو دين يتراكم على المواطنين»، يشير في المقابل إلى «أنّ زيادة التعرفة تحتاج لجرأة، لأنّها حتى لو كبّدت الناس أعباء إضافية في المدى القريب، ستصبّ في مصلحتهم على المدى البعيد»، مشبّهاً إياها بالعملية الجراحية التي تنقذ حياة مريض.
من قرار زيادة تعرفة الى آخر، تمضي الدولة إذاً بمخططات سدّ العجز من جيوب الناس، من دون أن تقدِم على أي خطوة إصلاحية، تستعيد من خلالها أقلّه ثقتهم بأنّ أموالهم لا تهدر في وعاء مثقوب. وبعد ما أفضت إليه زيادات تعرفة ساعات الكهرباء «الرسمية» من تظاهرة على أبواب مؤسسة كهرباء لبنان لإلغاء الإشتراكات، ها هي السلطة من خلال توجّهها لزيادة تعرفة خطوط الهاتف مجدّداً، تدفع نحو تخلٍ عن هذه الخدمة أيضاً، بعدما كان الوزير قد إستعجل إحتساب إيجابيات خطوته السابقة، وقد أشار في أحاديث منشورة له إلى «أنّها رفعت عدد مشتركي شبكة الإنترنت التابعة لأوجيرو بعد تموز العام الماضي، وبالتالي أثمرت إرتفاعاً في المداخيل بمعدل ثلاثة أضعاف ونصف، بمقابل مضاعفة الأسعار على المواطنين ضعفين ونصف فقط».
إذاً، كان وزير الإتصالات يرى قبل عام واحد فقط أنّ مضاعفة الرسوم بنسبة 250 بالمئة إبتداء من شهر تموز الماضي، كافية، وستترك اثاراً إيجابية على القطاع. إلا أنّه لا يبدو أنّ هذه المفاعيل الإيجابية دامت طويلاً في حساباته، فهو عاد وكشف في تصريحات له، بأنّ نفقات أوجيرو تبلغ حالياً 11 ألف مليار بينما تبلغ وارداتها 2500 مليار. ما يدفع المتابعين للتساؤل: لماذا لم تلحظ الوزارة هذا الأمر عندما فرضت زيادتها الأولى قبل أقل من عام؟ وأي عقل يدير قطاعاً بهذه الأهمية يخلّف خللاً بأربعة أضعاف ونصف في تحديد حجم الزيادة سابقاً؟ وإذا كان قد ظهر فعلاً أنّ الخلل هو بحجم أربعة أضعاف ونصف، فلماذا تحدّد الزيادة حالياً بسبعة أضعاف؟ أين هي الدراسات العلمية الشفافة التي تؤكد بأنّ هذه الزيادة ستشكّل جزءاً من حلّ مستدام يقوم على تحديد الحاجات، ووقف مزارب الهدر والسمسرات، ويضع رؤية لتطور القطاع وبالتالي زيادة مداخيله؟
يعود الوزير القرم في تصريحه لـ «نداء الوطن» إلى سعر منصة صيرفة في العام الماضي والذي كان 18 ألف ليرة وأصبح حالياً 86 ألف ليرة. ليتحدّث عن تضاعف قيمة النفقات بنحو خمسة أضعاف. هذا بالإضافة إلى تكراره ذريعة إرتفاع النفقات نتيجة لسعر المازوت، لافتاً في المقابل إلى أنّ «الوزارة لم تقم طيلة هذا العام بأي إستثمارات، وهذا ما يزيد من إستهلاكنا للتجهيزات، وبالتالي هامش الضعفين الإضافيين هو لعدم التقصير في تأمين الخدمة».
إلا أنّ المصادر المقابلة تشير إلى تضاعف سعر الدولار بالسوق الموازية 3.3 مرات فقط، لافتة أيضاً إلى عدم تناسق اقتراحات الوزارة مع الإرتفاع العالمي لسعر المازوت، فضلاً عن ارتفاع ساعات التغذية بالكهرباء خلال هذه الفترة وبالتالي تراجع الطلب على المازوت.
ومن هنا ترى المصادر أنّ استمرار ربط الزيادة المقترحة بالإنهيار المالي، لا يبدو منطقياً. إذ أنّ نسبة تضخم الأسعار وفقاً لتقرير محدّث صادر عن البنك الدولي في مطلع شهر حزيران بلغت 350 بالمئة، بينما إقتراح زيادة السبعة أضعاف قبل أن يجفّ حبر قرار الزيادة الأولى، يرفع سعر الخدمة المقدّمة عبر أوجيرو، بنسبة 700 بالمئة، بعد زيادتها بنسبة 250 بالمئة في المرة السابقة، وكل ذلك من دون أن يلمس المواطنون أي تحسّن في الخدمة.
وهذا ما يظهر وفقاً للمصادر المتابعة «إخفاق وزارة الإتصالات في بناء زياداتها المقترحة على دراسة علمية شفافة، تطمئن الناس وتزيل شكوكهم حول إستمرار الدولة بسياستها الترقيعية للأزمة القائمة، بعيداً من أي إجراء إصلاحي، يسدّ على الأقل مكمن هدر واحد، أشار إليه ديوان المحاسبة في تقريرين صادرين عنه:
– الأوّل يتعلق بمكافحة مقدّمي خدمة الإنترنت غير الشرعي، وصدر عن الغرفة السابعة في ديوان المحاسبة في تشرين الثاني 2021.
– الثاني صدر عن الغرفة الرابعة في الديوان في نيسان 2022، ويتطرق في جزء منه إلى رواتب وتعويضات المياومين والمستشارين، والى توظيفات حصلت خلافاً للقوانين، لأشخاص من دون شهادات وخبرات أحياناً، مع تفاوت في الرواتب ولاعدالة، تجعل من راتب سائق في أوجيرو يفوق راتب مهندس أو فني… بالإضافة إلى تقاضي مستخدمين رواتب مرتفعة جداً بوظائف إدارية عادية، ليترافق ذلك أيضاً مع زيادة في عدد المستشارين، ومع ما تركه عدم الإلتزام بسلسلة الرتب والرواتب منذ العام 2012 من تأثير على قيمة التدرج الإستثنائي في سنة 2018.
تحوّل الكادر الوظيفي في أوجيرو مع تدهور قيمة الليرة اللبنانية، «غولاً» يبتلع كل مقدرات القطاع ومن دون أن يأتي بإنتاجية موازية لما يتقاضاه. فبات على المواطنين تأمين التغذية المتواصلة لهذا «الغول»، تحت سيف تلويحه المستمر بتعطيل شبكة الإنترنت. في وقت تظهر الأرقام توجّه جزء كبير من اللبنانيين للتخلي طوعاً عن خدمات أوجيرو نحو الشركات الخاصة، كنتيجة لسوء الخدمة المتوفرة عبر الشبكة الرسمية. ما يحوّل هيئة أوجيرو وموظفيها وجهاً آخر من وجوه الدوائر الرسمية التي تغذيها الميزانيات العامة، من دون أن تؤمن بالمقابل الإنتاجية المطلوبة.
في المقابل، يعتبر الوزير القرم في تصريحه لـ»نداء الوطن» أنّه «إذا وقع خطأ بالماضي، لا يمكن أن نعيش بالماضي ولا نصحح في الحاضر. وما استطيع أن أؤكده أنني منذ ستة أشهر إلى اليوم لم أنفق ليرة في القطاع»، متسائلاً «إذا لم يكن هناك إنفاق من أين يأتي الهدر؟». ويؤكد أنه يطالب بالمال «لإنفاقه بالأساسيات، من تجديد لعقود الصيانة وتحديث البرامج وغيرها من الأمور الأساسية التي تؤمن إستمرار سير القطاع، ولا ندخل بمشاريع إستثمارية يمكن أن يكون فيها هدر». ولفت إلى وضعه ميزانية سيقوم بعرضها، ولا تتضمن أي مصاريف إستثمارية.
ولكن ألا تعتبر أي زيادة غير مترافقة مع إصلاح إستمراراً للهدر؟
برأي الوزير أنّ الإصلاح لن يتم من دون تطبيق قانون الإتصالات431، وهو للمناسبة قانون صدر منذ سنة 2002، ولم يطبق الى الآن. ويتابع القرم في ما يتعلق بالموظفين وتخمتهم ورواتبهم المضخمة في أوجيرو بالقول: «هل ضاقت العين بالموظف الذي يحتاج لراتبه ليعيش مع عائلته؟» شارحاً «انّ هذه الرواتب رفعت بنفس نسب رفع رواتب موظفي القطاع العام، الذين لا يعملون بقدر موظفي أوجيرو».
وتأتي إقتراحات زيادة تعرفة الإتصالات والإنترنت من قبل الوزارة وفقاً للمتابعين، لتغذّي إستمرار الهدر الحاصل في هذا القطاع، وفي أوجيرو تحديداً، علماً أنّ الوزير الذي قال في بيانه إنه يعالج موضوع الإنترنت غير الشرعي بناء لتوجيهات ديوان المحاسبة، تخطّى المهلة المحدّدة له من قبل مجلس الوزراء بستة أشهر لإصلاح واقع هذا القطاع، وتجاهل إقتراحات الحلول التي أوردها ديوان المحاسبة في تقريرة الصادر سنة 2021، بعد استماعه إلى المديرية العامة للإستثمار والصيانة وهيئة أوجيرو.
خلاصة الأمر، أنّه كان يمكن للمواطنين أن يبتلعوا زيادة السبعة أضعاف لو ظهر فعلاً أنّها استندت إلى مؤشرات واضحة، سليمة. فالموضوع ليس أسود أو أبيض في تحديد الموقف من الزيادات المقترحة بالنسبة للمصادر المهتمة، بل تعتبر أنّ الزيادات يجب أن تحصل لإمتصاص حجم التدهور في العملة اللبنانية، وإنّما الحلول الترقيعية برأيها هي التي لا تبني قطاعاً بهذه الأهمية. وهذا ما يجعل من الزيادات المقترجة حالياً من دون إصلاحات ضرورية مجرد «شلف».
تطرق ديوان المحاسبة في تقريره إلى مخالفات هيئة أوجيرو للقانون من خلال إستخدامات جديدة في العامين 2017 و2018، بعدما شكّلت الهيئة ملاذ السياسيين، باعترافات مدير عام أوجيرو الإعلامية، لتمرير تنفيعات الأحزاب الى أزلامها عبر توظيفهم في الهيئة، من دون المرور الإلزامي بامتحانات الخدمة المدنية التي تشكّل المعبر الوحيد للقطاع العام. كما تطرق تقرير ديوان المحاسبة إلى المنح والحوافز التي إستفاد منها مدير عام أوجيرو وتضمّنت مخالفات عديدة تحرك على أساسها التفتيش المركزي. كما تضمّن مستندات تدين أوجيرو، وتتحدث عن مصاريف فائقة، عن توظيف عشوائي، ورواتب خيالية، ورحلات خارجية لا رقابة عليها، وعلى مشاريع لم تؤمن الإنتاجية، ومع ذلك لم تتحرك أي جهة معنية لاتخاذ الإجراءات حيالها.