القصّة الكاملة للهجمة على لجنة الرقابة على المصارف

على مدى الأيّام القليلة الماضية، تعرّضت لجنة الرقابة على المصارف، وبالتحديد رئيستها مي دبّاغ، لهجمة إعلاميّة ممنهجة. ومحور هذه الهجمة، اتهامها بمحاولة ضرب الاستقرار النقدي، والطعن بمصداقيّة مصرف لبنان، ومحاولة منعه من شراء الدولارات من السوق عبر أحد المصارف المحليّة. وكما هي العادة دائمًا، استقت المقالات والتقارير الإعلاميّة معطياتها من “مصادر مصرف لبنان”، أي وفق نهج الحاكم السابق رياض سلامة، في تمرير الرسائل بأسلوب التسريبات والتلميحات والدسائس الإعلاميّة. وحين يتعلّق الأمر بـ “مصادر المصرف”، فالمقصود إدارة المصرف، التي تبدو –من هذه الرسائل- مغتاظةً لسببٍ ما من مي دبّاغ ولجنة الرقابة على المصارف. فماذا فعلت مي دبّاغ؟

جميع التسريبات، لم تقدّم قصّة واضحة لما جرى، باستثناء الاتهامات الغامضة الذي ذكرناها أعلاه. والاتهامات مثيرة في واقع الأمر للاستغراب. بل وتبدو –من ظاهرها- أقرب للتجنّي. فلجنة الرقابة على المصارف تملك استقلاليّتها عن الحاكميّة، لكنّها لا تملك أمر “المنع” أو “الإكراه”، بل تراقب وتحيل تقاريرها وتوصياتها إلى شخص الحاكم، المكلّف بإحالتها إلى الهيئة المصرفيّة العليا لاتخاذ القرار المناسب. فكيف تمنع المركزي من التعامل في السوق الموازية عبر أحد المصارف التجاريّة؟ ثم إنّ تعاميم المصرف المركزي نفسه تمنع تداول المصارف التجاريّة في السوداء، فلماذا يحتاج هذا المنع إلى قرار من لجنة الرقابة، التي لا تملك هذه الصلاحيّة أصلًا؟

بداية القصّة من أيّام رياض سلامة
تسرد “المدن” القصّة الكاملة من ألفها إلى يائها. وبخلاف لغة “المصادر” والاتهامات الغامضة، تستند هذه القصّة إلى تعاميم حاكم المصرف –بحلتيه القديمة و”الجديدة”- ومراسلات لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصّة والنيابة العامّة التمييزيّة.

تبدأ جذور القصّة من أيّام الحاكم السابق رياض سلامة، الذي أصدر التعميم 154 في آب 2020، مُلزمًا المصارف التجاريّة بتكوين حسابات خارجيّة حرّة –أي سيولة مودعة في الخارج- بنسبة 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبيّة لديها. يومها، ولتكوين هذه الاحتياطات، تهافتت المصارف التجاريّة على شراء الدولارات النقديّة من السوق الموازية بأساليب شتّى، من بينها بيع اللولارات مقابل الدولار النقدي. وهذا النمط من العمليّات، ساهم في تجفيف السوق الموازية من الدولارات، وهو ما ضرب تلقائيًا سعر صرف الليرة.

بعد نحو سنة، وجرّاء التداعيات الكارثيّة لتدخّل المصارف التجاريّة في السوق الموازية، اضطرّ المجلس المركزي لمصرف لبنان لإصدار التعميم 159، الموجّه أيضًا للمصارف التجاريّة، والذي قضى بمنعها كليًا من شراء الدولارات من السوق الموازية. التعميم نفسه، وضع شروطًا تقيّد عمليّة شراء الدولارات، عبر حصرها بالسيولة المحوّلة من الخارج لمصلحة زبائنها، فيما كان يفترض تسجيل تلك العمليّات على منصّة صيرفة.

التحايل عبر بنك الاعتماد المصرفي
غير أنّ سلامة نفسه، الذي وقّع التعميم، قام بنقيض هذا القرار. إذ بعد منع المصارف التجاريّة من شراء الدولارات من السوق، قام بتفويض بنك الاعتماد المصرفي بشراء الدولارات من السوق الموازية، لمصلحة مصرف لبنان، وعبر أحد الوسطاء المعروفين في السوق. مع الإشارة إلى أنّ التعميم 159 نفسه، لم ينص على أي آليّة تسمح للحاكم بتفويض مصرف تجاري بمهمّة من هذا النوع.

هنا، وبمعزل عن كل ما جرى لاحقًا، ولدت الخطيئة الأصليّة. ثمّة مصرف مركزي منح مصرفًا ما حقًا وامتيازًا حصريًا للتداول في السوق الموازية، بخلاف جميع المصارف الأخرى، ووحده من بين تلك المصارف. ومن دون الاعتماد على أي إجراءات شفّافة لاختيار المصرف الذي سيملك هذا الحق، بل ومن دون الإعلان عن العمولات والمكاسب التي سيحققها الاعتماد المصرفي من هذه العمليّات. وهذا الحق الحصري، جاء ليخالف مضامين تعميم المصرف المركزي المُعلن نفسه.

الغاية من هذا التحايل على التعميم، لم يكن سوى رفد منصّة صيرفة –سيئة الذكر والسمعة- بالدولارات المطلوبة لتمويلها. أي بعبارة أخرى، كان الاعتماد المصرفي يتولّى شراء الدولارات، التي كان المصرف المركزي يبيعها عبر المصارف التجاريّة الأخرى، من دون أي معايير شفافة توضّح هويّة المستفيدين من هذه الدولارات (باستثناء موظفي القطاع العام، الذي تقاضوا رواتبهم بالدولار على سعر المنصّة).

ولمن لا يذكر، كانت المضاربات التي جرت عبر منصّة صيرفة قد حقّقت أرباحًا بقيمة 2.5 مليار دولار، لمصلحة أطراف مجهولة، وفقًا لأحد تقارير البنك الدولي. وبطبيعة الحال، لا يملك الرأي العام اليوم أي تفاصيل بخصوص آليّات شراء الدولار من السوق، التي اعتمدها الاعتماد المصرفي، بعد حصوله على الحق الحصري. كما لا يملك أي تفاصيل حول القيود الرقابيّة، على سعر الصرف المعتمد لشراء الدولارات من السوق. هل كان الاعتماد المصرفي يشتري الدولارات، بنفس سعر الصرف المعتمد من قبل مصرف لبنان لهذه الغاية؟ في النهاية، نحن نتحدّث عن “سوق سوداء”. هكذا هو إسمها.

رائحة الفضائح تفوح من الاعتماد المصرفي
على مرّ السنوات الثلاث الماضية، كانت تتوالى رائحة الفضائح من داخل بنك الاعتماد المصرفي، كما توثّقها تقارير لجنة الرقابة على المصارف، والتحقيقات التي قامت بها هيئة التحقيق الخاصّة.

المشكلة الأولى، كانت العجز المتراكم في ميزانيّة المصرف، الذي عجز عن تكوين المؤونات بنسبة 3% من إجمالي الودائع الموجودة لديها. كما تشير تقارير لجنة الرقابة على المصارف إلى وجود عجز في مركز القطع الفعلي بقيمة 318 مليون دولار (أي أنّ المصرف مكشوف على هذه القيمة في حساباته وميزانيّته). التقارير نفسها، تشير إلى عدم قدرة المصرف على التعامل مع المخاطر الموجودة، وفشله في زيادة قيمة الأموال الخاصّة وفقًا للقواعد المصرفيّة المطلوبة منها.

في بعض تقارير لجنة الرقابة على المصارف، تساور اللجنة شكوكًا “حول عمليّات تبييض أموال ترتبط بحسابات” إحدى الشركات، التي جرى استعمالها لإعادة رسملة المصرف. ثم سرعان ما بدأت التحقيقات القضائيّة بالدخول في شبهات اختلاس وتهريب الأموال من داخل المصرف، من قبل صاحبه طارق خليفة، إلى مصرف آخر أنشأه خارج البلاد. هكذا، انتهى الأمر بتعيين مدير مؤقّت للمصرف، وبصدور بلاغات بحث وتحرّي بحق خليفة.

بات مصرف لبنان متعاملًا في مجال القطع، مع مصرف مشبوه يعاني من عجز مالي. وأصل التعاقد مع هذا المصرف، كان محل شك منذ البداية، بل وكان محل تناقض مع تعاميم المصرف المركزي نفسه. واليوم، يطرح خليفة محاولات لتسوية النزاع، من خلال تقديم مبلغ معيّن كمقدّمات نقديّة للبنك، للمساهمة في سداد العجز القائم. وتمرير هذه التسوية، واستكمال عمليّات المصرف المركزي مع بنك الاعتماد المصرفي، بات يحتاج لمصادقة من لجنة الرقابة على المصارف، عبر تقييم معيّن للأصول وكفايتها. اللجنة ورئيستها مي دبّاغ، ترفض التورّط في تغطية تسوية من هذا النوع، وتكتفي بحدود دورها الرقابي، المنصوص أصلًا والمحدّد في قانون النقد والتسليف.

باختصار، يجري ابتزاز لجنة الرقابة على المصارف لتمرير تسوية، لا أكثر ولا أقل. أمّا ما يعنينا أكثر حاليًا، فهو أن المصرف المركزي مازال مصرًّا على هذا النمط الملتبس من آليّات جمع الدولارات من السوق، الذي يمكن أن يخفي قائمة من المستفيدين والمنتفعين، بدل إطلاق منصّة التداول الشفّافة، والمفتوحة لجميع المصارف بشكل شفّاف. البديل عن الاعتماد المصرفي، واللعب في السوق السوداء، ليس العودة للصرّافين غير الشرعيين، كما يزعم أصحاب الحملة على دبّاغ اليوم. بل إطلاق المنصّة. وتأخير هذا الإطلاق، يخفي شيئًا ما.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالعمّال السوريون في لبنان: لن نخرج من هذا البلد!
المقالة القادمةميقاتي يراوغ والقطاع العام يدفع الثمن