لا شيء يمنع المصارف اليوم من تسديد مستحقات مودع ما بالدولار نقداً. كما لا شيء يردعها من رفض اعطاء عميل آخر دولاراً واحداً من حسابه بالعملة الأجنبية، واستبدال طلبه بشيكٍ مصرفي بالدولار أو بالليرة اللبنانية مضروبة بـ 3900 ليرة، إلى حد معين شهرياً. هذه الاستنسابية غير المحكومة بقوانين، تربك المودعين وتدفعهم إلى عمل المستحيل لتحصيل حقوقهم عبر القضاء، الذي لم ولن يستجيب في ظل وجود ثغرة في قانون النقد والتسليف تسمح للمصارف النفاذ منها.
التحويل الى الخارج معلّق قضائياً
قبل أيام رفضت محكمة الامور المستعجلة في بعبدا دعوى تقدم بها مودع بحق بيبلوس بنك، أراد منها الزام المصرف تحويل 6010 يورو من حسابه إلى جامعة في بلجيكا لتسديد قسط ابنته السنوي، بالاضافة إلى تسديد 431 يورو شهرياً كبدل ايجار مسكن. الدعوى أرفقت بكل المستندات المطلوبة وبتحذير من الجامعة بامكانية فقدان الحق بالانتساب اليها إن لم يُدفع المبلغ قبل 15 أيلول، وتحميل الطالبة غرامات عن كل يوم تأخير.
بعيداً من سرديات الدعوى وتفاصيلها، فان القضاء لم يرَ ان المصرف مذنب. فالاخير أبدى استعداده لتسليم المدعي المبلغ المطالب به بموجب شيك مصرفي. وان الشيك المصرفي برأي المحكمة “يعتبر وسيلة ايفاء مبرئة لذمة المدين، ولا يرد على ذلك بان الايفاء بتلك الوسيلة لا يتمتع بالصفة المبرئة في الوضع الراهن كونه لا يؤمن للدائن السيولة اللازمة، ولا يؤدي إلى ايفاء دينه في الخارج. لان من شأن ذلك ان يجرد الشيك من قيمته كوسيلة ايفاء أقرّها القانون”. كما ان الطلب لا ينطبق عليه تعميم مصرف لبنان 153 الذي يسمح للمصارف بتحويل الاموال من الحسابات الجارية بالدولار إلى الخارج لصالح الطلاب. ذلك لكون الطالبة لم تكن مسجلة ومقيمة في الخارج قبل العام 2019. وهي برأي القضاء “تقدمت بالطلب وهي على علم بصعوبة اجراء التحاويل المالية. ولا يمكنها التذرع بالعجلة القصوى كونها هي من وضعت نفسها بمعرفتها الكاملة في حال الاستعجال”.
التحويل خدمة قد تفلس المصارف
النقطة الأبرز برفض الدعوى كان ارتكاز الحكم على ان “العقد بين المصرف والمودع لا يتضمن أي موجب يلزم المصرف اجراء عملية التحويل المطلوبة رغماً عنه في حال رفض اجراءها”. وبحسب المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن فان “عملية تحويل الاموال إلى الخارج تعتبر خدمة تندرج ضمن نطاق الخدمات المصرفية التي يقدمها البنك. وهي تشبه اصدار بطاقة الاعتماد أو ارسال الرسائل النصية وغيرها الكثير من الخدمات. وبالتالي إذا لم يكن عقد العميل مع المصرف يتضمن هذه الخدمة فان للمصرف كامل الحق بعدم تنفيذها”. وبحسب الخازن فان “عدم وجود تعامل تجاري متتابع مع المصرف او تحويل متكرر لاقساط دراسية مثلاً كل فترة، هي ضعف حجة العميل في حال أراد تحويل مبلغ على شكل فجائي”. ومن وجهة نظر الخازن فان “المصارف لا ترفض التحويل بشكل اعتباطي وشامل، بل تمتنع عن تحويل مبلغ من الحساب بالذات ولا ترفض على سبيل المثال تحويل الاموال النقدية الطازجة في حال احضرها العميل”. أما السبب برأيه فهو “عجزها عن تلبية كافة الطلبات وتراجع السيولة لديها بالعملات الاجنبية الى الحدود الدنيا، خصوصاً بعدما استنزفت خلال الاشهر الماضية كل الاموال وحتى اموالها الموجودة لدى المصارف المراسلة في الخارج”.
إنطلاقاً مما تقدم فان “الحكم لصالح المودع مرة قد يفتح على المصارف الباب أمام آلاف الدعاوى التي قد تتسبب بانهيار القطاع المصرفي”، يقول الخازن. وهذا ما يعرف بالـ “raison d’état” حيث تغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة حتى لو اتت الاحكام والقرارات غير عادلة بحق المودعين”.
الدولار الطالبي يصل إلى اللجان المشتركة
بالنظر إلى عدد المودعين الهائل في المصارف اللبنانية وحجم الودائع بالدولار الاميركي الذي يتجاوز 120 ملياراً، نرى ان الاكثرية قد توقفت عن محاولة تحصيل اموالها بالعملات الأجنبية عنوة. وقد لجأت بدلاً عن ذلك إلى التحايل الشرعي لتحصيل اموالها عبر شراء العقارات والاراضي والاصول، أو غير الشرعي من خلال شراء السلع المدعومة بالليرة اللبنانية واعادة بيعها إلى سوريا للحصول على الدولار الطازج. أما القلة المتبقية فلا تطلب اكثر من تأمين الامور الاساسية كالايجارات والضرائب في الخارج وأكلاف الاستشفاء والتعليم. ومن هؤلاء برزت أخيراً “لجنة أهالي الطلاب اللبنانيين الموجودين في الخارج” التي رفضت قرار مصرف لبنان الاساسي رقم 13257 تاريخ 19/8/2020. فالتعميم يسمح للمصارف إجراء تحويل اموال من حسابات عملائها الجارية بالعملات الاجنبية فقط الى الخارج لتأمين سداد اقساط تعليمية وبدل ايجار بسقف 10 آلاف دولار سنوياً. يشترط ان يكون الطالب مسجلاً في مؤسسة تعليمية ومقيماً في الخارج قبل العام 2019.
هذا الغبن دفع مجموعة من النواب إلى تقديم قانون معجل مكرر لتأمين الدولار الطالبي على سعر 1515 للجميع من دون استثناء. القانون المعجل المكرر أقر اليوم (الأمس) حديثاً في اللجنة الفرعية المصغرة في مجلس النواب المولجة دراسته. وقد نص على حق كل طالب مسجل في الخارج قبل العام 2019 ويملك أو ذووه حساباً مصرفياً بالدولار أو الليرة بتحويل 10 آلاف دولار إلى الخارج على سعر 1515 لتسديد الاقساط وتأمين المعيشة. وبحسب عضو اللجنة النائب د. بلال عبدلله فان “حصر القانون بالطلاب القدامى مرده إلى اخذ اللجنة ظروف البلد الاقتصادية وقدرات المصارف بعين الاعتبار”. أما عن استثناء من لا يملك حساباً مصرفياً من تحويل الاموال على سعر 1515 فاعتبر عبدالله ان “هذه الفئة من الاهالي نسبتها قليلة جداً بالمقارنة مع من يملكون حسابات مصرفية. وعلى الرغم من حقهم بالاستفادة من الدولار الطالبي المدعوم، إلا ان اقرار هذه النقطة كان من شأنه تطيير القانون وحرمان الشريحة الاكبر من الطلاب من إكمال تعلّمهم في الخارج”.
“الكابيتال كونترول” مؤجل
أمام هذا الواقع يبرز السؤال عن جدوى استمرار تأخير قانون “الكابيتال كونترول” الذي من شأنه أن يضع حداً لكل التجاوزات ويوزع الخسارة بشكل عادل على جميع المودعين. وبحسب أحد المصادر فان “أسباب عدم اقراره هي سياسية بامتياز، وتتعلق بوجود مصلحة عند بعض الجهات المؤثرة ببقاء الامور كما هي عليه”. أما من الناحية التقنية فيرى الخازن ان “عدم قدرة المصارف على تطبيقه مهما كان قاسياً يشكل عائقاً جدياً امام وضعه موضع التنفيذ. فالنظام المصرفي في الظروف الحالية وفي حال عجز الدولة عن تسديد مستحقاتها، سيكون عاجزاً حتى عن تحويل الجزء الذي يجيزه “الكابيتال كونترول” لصالح المودع”.
بين الحق الشخصي والمصلحة العامة، يغرق البلد كل يوم اكثر من الذي سبقه في دوامة من الفشل والانهيار. فيما الحل المتمثل في الاصلاحات في القطاع العام والمصرفي يقف على بعد خطوة واحدة. فهل تمتلك الطبقة السياسية الجرأة لتخطو باتجاه الاصلاح أم تترك الناس فريسة دوامة الانهيار الشامل؟