حُلّت الإشكالية، ومن المقرر أن يحضر وفد القضاة الاوروبيين الى لبنان اذ ان “كل التباينات التي برزت بين الجانبين اللبناني والاوروبي تبدّدت نهائيا” بحسب مصدر قضائي متابع للملف، وتمّ الإتفاق على توحيد الإجراءات وآلية حصول التحقيقات” على أن تجري الاستجوابات (30 شخصية ماليّة ومصرفية) في القاعة الرئيسية لمحكمة التمييز في الطابق الرابع من قصر العدل في بيروت، بحضور قضاة من النيابة العامة التمييزبة اللبنانيّة يتوّلون بأنفسهم مهمة الاستجواب، وذلك ضمن تنفيذ استنابة قضائية ترعاها اتفاقيّات التعاون الموقّعة بين لبنان ودول الوفود الثلاثة فرنسا والمانيا ولوكسمبورغ، والتي تحترم صلاحيات القضاء المحلي، واعتبرت مصادر قضائيّة ان النتائج ستخدم مسار التحقيق الذي يجريه القضاء اللبناني لأنّه سيطّلع على كل المعلومات المتوفرة للقضاء الاوروبي وسيبني عليها اجراءاته في المرحلة المقبلة.
لكن السؤال كيف وبأيّة طريقة حُلت المشكلة، وكيف سيتعامل لبنان مع الوفد القضائي الأوروبي. ما هي المقاربة القانونيّة لهذه الخطوة علام تدلّ؟ وما هي خطورتها بالنسبة للبنان؟.
في الجانب القانوني رأى رئيس مؤسسة جوستيسيا القانونية المحامي الدكتور بول مرقص عبر “النشرة” انه “رغم إقرارنا المطلق بضرورة مكافحة الفساد وتفعيل التحقيقات القضائية عموماً، بسبب الفساد المتفشّي، إلا أن ثمّة تعاون لإجراء التحقيقات القضائيّة عندما يكون الأمر بين دولتين أو أكثر، مع مراعاة المرتكزات الأساسية لسيادة الدولة في القانون المحلّي التي يجب إحترامها، هذا ما يتوافق مع أحكام المادة /49/ من إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، والموقّعة من قبل لبنان عام 2009، التي تحثّ الدول الأطراف على توقيع إتفاقيات ثنائيّة ومراعاة مبدأ السّيادة المحليّة ورغم التشجيع على توقيع ما تقدّم من اتفاقيات، ففي حال رغبت دولة أجنبيّة طرف في الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، في إجراء تحقيقات و/أو استجوابات في لبنان، يتوجب عليها أن تطلب ذلك عبر السلطات اللبنانيّة المختصّة وفق آليّة الطلب المحددة في المادة /46/ من الإتفاقيّة عينها، وهي النيابة العامة التمييزية. ومن السوابق على ذلك قضية رجل الأعمال كارلوس غصن، الذي استجوبه القضاء الفرنسي في لبنان، وسواها من القضايا كقضية الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي والأموال الافريقية وغيرها من القضايا، حيث يبقى للدولة متلقيّة الطلب حقّ رفض تقديم المساعدة القانونيّة المتبادلة، إذا لم يقدّم الطلب وفقاً للأصول المفروضة، أو إذا رأت الدولة الطرف متلقيّة الطلب أنّ التنفيذ قد يمسّ بسيادتها أو أمنها أو نظامها العام أو مصالحها الأساسية الأخرى، استناداً إلى الفقرة 21 من المادة 46 عينها”.
وشدّد مرقص على أنّ الدستور اللبناني يكرّس في مقدمته مبدأ سيادة الدولة اللبنانية ( “Principe de souverainte de l’etat” ) وكذلك قانون العقوبات اللبناني، بحيث لا تخضع الدولة لأي سلطان الا في ما تتّفق عليه من تعاون قضائي مع دولة أو دول أخرى، كما بالنسبة لاتفاقية الأمم المتحدة 186 لمكافحة الفساد التي وقعت عليها 20 دولة عربيّة، والتي رغم أنها تنص على مبدأ احترام السيادة القانونية لكل دولة إلا انّها في موادها الأخيرة تنص على إجراءات تعاون قضائي برضى الدول المُوقّعة من شأنها أن تجيز الاستجواب. علماً أن لبنان كان قد وافق على مباشرة التعاون هذا منذ بضعة سنين قبل أن تبلغ الوفود القضائية الأوروبيّة عزمها المجيء بذاتها إلى لبنان.
اما عن المخاوف من المحققين الاوروبيين، لفت الصحافي المتخصص في الشؤون القضائيّة يوسف دياب الى ان خطوة كهذه تدلّ على أنّ الملفات اللبنانية ذات البعد الخارجي لم تعد فقط محصورة في يد القضاء اللبناني، بل هناك تدخلات لأسباب عدّة، منها ان القضاء لم يحسم في الملفّات العالقة لديه سواء المالية منها او غيرها، لذلك برأيه “هناك تخوف حقيقي في لبنان من انّ الملف المالي هو المدخل للتدخل في ملفّات أخرى كملف المرفأ واليونيفل او غيره. وبالتالي صار لزاما على القضاء اللبناني أن يتعامل بجدّية اكبر مع التحقيقات كملفّ حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الذي انتهى التحقيق فيه منذ الصيف، لكن لم يحصل أيّ ادعاء فيه، لذلك هناك مأخذ على القضاء اللبناني أكثر. الأمر الذي استدعى تدخّل القضاء الأجنبي وهذه الخطوة أضعفت القضاء اللبناني بشكل كبير وأثرت على مصداقيته في العمل التحقيقي أو بمراحل المحاكمات، التي ممكن أن تحصل لاحقا، بالتالي شئنا أم أبينا أصبحت الملفات اللبنانية تحت وصاية دولية سواء أوروبية أو غيرها واصبحت أمام مراقبة دوليّة ولا يمكن للبنان التفرّد بها ولا يمكنه “تنويم الملفّات” ولا تحريفها باتجاه يخدم مصلحة سيّاسية معيّنة.
هذا، وكانت سبقت الزيارة موجة من الاستياء والانتقادات، لأن الوفود الاوروبيّة أطلعت بيروت على طبيعة عملها بالحضور لاستجواب لبنانيين لتحديد مصادر أموال حولوها الى مصارف اوروبية خلال السنوات الماضية، من دون تدخّل القضاء اللبناني، الأمر الذي أثار استياء القضاة اللبنانيين واعتبروا هذا الأمر تدخلاً بالعمل القضائي اللبناني ومصادرة لدوره، علمًا أن أيّ شيء لم يمنع القضاة من ممارسة دورهم بشكل طبيعي لولا التدخّلأات السياسية المسيطرة على الجسم القضائي.