يعود ملف الكهرباء إلى النقاش، ولا سيما مع خروج وزارة الطاقة، للمرة الأولى منذ عام 2009، من يد التيار الوطني الحرّ، ووعود الفريق الجديد («القوات اللبنانية») الذي تسلّم الوزارة بتأمين الكهرباء 24/7 خلال سنة.
ويبدو لوهلة، من كل الوعود التي تساق تحت شعار الـ24/7، أن المشكلة مرتبطة بالفساد أو التقصير على مستوى شراء الفيول، بينما المشكلة أعمق، إذ إن تشغيل الكهرباء يتعلق بتأمين كلفة الاستثمار والتشغيل بالعملة الأجنبية التي لا يكفي دفقها لتأمين كل الحاجات المحلية، ومن بينها تشغيل المعامل.
من المهم إعادة طرح الوقائع بشكل واضح، من مقدّرات الإنتاج الكهربائي (أي معامل الكهرباء المتاحة) إلى القدرة على استيراد الفيول اللازم لتشغيلها. كما أن من المهم معرفة حجم الطلب على الكهرباء، وهو ما يُحدد بشكل أساسي ساعات التغذية التي يمكن أن تؤمّنها المعامل. وإلى ذلك كله، تحتاج معالجة ملف الكهرباء إلى تشريح أقسام القطاع لمعرفة مكامن الخلل فيه، من الإنتاج إلى النقل فالتوزيع.
تراوِح القدرة الإنتاجية القصوى لمعامل الكهرباء القائمة حالياً بين 1800 و2000 ميغاواط ربطاً بفترات الذروة. عام 2021، بلغ حجم الطلب بين 3000 و3450 ميغاواط. نظرياً، يبلغ العجز نحو 1450ميغاواط، أي ما يوازي 42% من الطلب الإجمالي. إذاً، السعة الإنتاجية الموجودة قادرة على تأمين ما بين 12 ساعة و14 ساعة تغذية بالكهرباء. لكن، فعلياً، لم يحصل المشتركون على هذا المستوى من التغذية منذ أكثر من عشر سنوات.
ويعود ذلك إلى المشكلة الأساس المتمثّلة بتأمين العملات الأجنبية لشراء كميات الفيول اللازمة لتشغيل معامل الكهرباء. وقد مثّل الفيول المستورد لتأمين تغطية هزيلة بالكهرباء أكثر من 10% من قيمة الواردات اللبنانية لعام 2024. وبالتالي، فإن استيراد مزيد من الفيول سيزيد قيمة الواردات ويضغط على العجز التجاري الذي يشكّل جزءاً أساسياً من الحساب الجاري الذي سجّل عجوزات متواصلة منذ أكثر من عقدين.
ووفقاً للبنك الدولي، بلغ عجز الحساب الجاري عام 1999 نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي، وسجّلت سنة 2006 التي كانت الأفضل عجزاً بنسبة 8.8%. وفي عام 2019 سجّل العجز 21.5%، مع تقديرات بوصوله إلى 25.3% في عام 2024. والعجز معناه أن حجم ما خرج من عملات أجنبية إلى لبنان أكبر مما دخل. وتُرجم هذا العجز التاريخي انكساراً للعملة الوطنية في عام 2019 وانهياراً في القطاع المصرفي وتبدّد كمية هائلة من المدّخرات أو الودائع.
إذا حُلّت هذه العقدة، فيمكن بكل تأكيد تأمين 12 إلى 14 ساعة من الكهرباء، كما تشير تقديرات إلى أن الفيول المتوفّر لدى مؤسسة كهرباء لبنان الآن يكفي للحصول على هذا العدد من الساعات، لكنّ الأمر يرتبط بقدرة المؤسسة على الاستدامة في حلقة التمويل. حلّ هذه العقدة يحتاج إلى تأمين العملات الأجنبية. ويمكن الحصول على هذه العملات من السوق، لكنّ الأموال ستأتي على حساب حاجات أخرى، أي إنها ستشكّل ضغطاً على سعر صرف الليرة من خلال ارتفاع الطلب على الدولار.
عملياً، يستعيض المقيمون في لبنان عن النقص الناتج عن قصور الدولة عن تأمين التغذية القصوى، بالمولّدات الخاصة التي تعمل بين الأحياء. وهذه المولّدات تعمل بالمازوت الذي تستورده شركات القطاع الخاص. بهذا المعنى، فإن رفع عدد ساعات التغذية بالتيار الرسمي، يعني انخفاض كلفة استيراد المازوت. ويؤكد وزير الطاقة السابق وليد فياض أن «الدولارات موجودة. فالتغذية بالكهرباء تتم الآن عبر استيراد المازوت للمولّدات الخاصّة، وهي كهرباء مرتفعة الكلفة ومموّلة بدولارات تخرج من البلد.
في الواقع، هذه النتيجة سببها التقييم الخاطئ للأولويات في هذا القطاع. وهناك دور مهم لوزارة المال والمصرف المركزي للتوجيه الأفضل في هذا الموضوع، لأننا نعلم أنه سيوفّر على الميزان التجاري نحو 1.2 مليار دولار سنوياً».
لذا قد يكون حلّ العقدة في قرار زيادة الإنتاج. وهو قرار لا يتعلّق بوزارة الطاقة فقط، فمن الواضح أن فياض اتخذ قراراً بالمضي في زيادة الإنتاج، لكنّ العقدة كانت في «حلقة التمويل»، أي ما تتطلبه المعامل من فيول للتشغيل الأقصى، وهذا يفترض أن يُدرج في الموازنة العامة مع الأخذ في الاعتبار إيرادات الجباية وكلفة تشغيل المعامل وصيانتها وسائر المصاريف ذات الصلة.
إذا عولجت مسألة الإنتاج الأقصى في المعامل القائمة، فيصبح الحديث عن الاستثمار ذا جدوى، ويمكن السير بالأمرين معاً لتوفير الوقت. لكنّ حساب هذا الأمر معقّد نسبياً. بلوغ تغذية بالتيار تصل إلى 24 ساعة يتطلب إغلاق الهوّة بين القدرة الإنتاجية والطلب، أي استثمارات في إنشاء معامل حرارية جديدة. في فترة ما كان النقاش في إنشاء المعامل يتعلق بكلفتها ومن يقوم بالاستثمار، وهل ستعمل بالغاز أو الفيول أو حتى بالفحم الحجري؟ وهل تستثمر الدولة من أموالها الخاصة أم بشراكة مع القطاع الخاص (خصخصة)؟
وهل تقتصر مثل هذه الشراكة على المعامل أم تشمل الشبكة والصيانة والجباية والتشغيل؟ استثمار مليارات الدولارات هو مفاضلة مع الكلفة المقدّرة في السنوات المقبلة.
كلما استثمرت باكراً، انخفضت الكلفة لاحقاً. بحسب مسوّدة طُرحت في مجلس الوزراء سنة 2022، يحتاج لبنان إلى استثمار نحو 3.5 مليارات دولار لتأمين الكهرباء 24 ساعة.
مردود هذا المبلغ قد يكون كبيراً جداً في المدى المتوسّط. وهذا الاستثمار ليس محصوراً بإنشاء أو توسيع المعامل الحرارية فقط، بل يشمل كلفة ترميم وتوسيع البنية التحتية للنقل والتوزيع، إذ تعاني كهرباء لبنان من مشاكل في شبكة النقل بسبب تقادم البنية التحتية ونقص الصيانة، وهو ما يسهم في زيادة الهدر الفني الذي يسهم في خسارة الإنتاج الكهربائي. أما بالنسبة إلى التوزيع فيعاني من خسائر تقنية وغير تقنية عالية تبلغ نحو 35%.
أما شبكة التوزيع فلا تتحمّل نقل كامل الحاجة إلى بعض المناطق. أساس هذه المشكلة هو ندرة الاستثمارات التي تصبّ في تطوير شبكات التوزيع، خصوصاً في بعض المناطق، مقابل الاستثمار المفرط في شبكات التوزيع في مناطق أخرى. على سبيل المثال، بحسب الباحث إيريك فيرديل في ورقته البحثية «أزمة البنية التحتية في بيروت والصراع من أجل (وليس) إصلاح الدولة اللبنانية»، فإنه في منطقة «سوليدير»، غطّت الاستمارات إعداد شبكة نقل لنحو 240 ميغاواط، بينما لا يتجاوز الطلب أكثر من 70 ميغاواط. في المقابل، تتحمّل الشبكة في الضاحية الجنوبيّة نقل 140 ميغاواط رغم أن الطلب يفرض وجود شبكة تتحمّل نقل وتوزيع 400 ميغاواط. التفاوت في الاستثمارات يعود إلى التفاوتات السياسية واعتبارات تتعلق بالمدينة والضواحي التي تسجّل نموّاً سكانياً كبيراً، إلى جانب تهالك الشبكة الموجودة.
يحول هذا الأمر دون حصول بعض المناطق على التيار الكهربائي بحسب حاجتها، فحتى لو كانت القدرة الإنتاجيّة كافية لتأمين الطلب على الكهرباء، تمنع مشكلة التوزيع حصول هذه المناطق على حاجتها من التيار، وهذا ما شهدته مناطق عدة عندما كانت القدرة الإنتاجيّة مرتفعة، بين عامَي 2004 و2006، فالمناطق المهمّشة لم تحظَ بـ24 ساعة كهرباء حتى في أعلى معدلات الإنتاجية، في حين تمتّعت بيروت بها من عام 1996 حتى عام 2006. بمعنى آخر حتى لو عُمل على تأمين قدرة إنتاجية تغطي الطلب، فمن دون الاستثمار في النقل والتوزيع، لن تحظى كل المناطق بالتيار الكهربائي لمدة 24 ساعة يومياً.