لست من محبذي استخدام الكلمات والالفاظ غير العادية والمتداولة والبعيدةعن اللياقات، ولكنني اليوم وصلت الى حدّ لم اعد ارى فيه قطاع الكهرباء في لبنان الا بمثابة “بائعة هوى” للسياسيين والمسؤولين، فيما اللبنانيون هم الوحيدون الذي “يتكهربون” بعد دفع الفواتير الكهربائيّة وسماع الذرائع والحجج التي يوفرها المسؤولون اللبنانيون. لم تعد أزمة الكهرباء في لبنان مجرّد خلل في قطاع خدماتي، ولا يمكن اختزالها بانقطاع التيار أو العجز المالي لمؤسسة كهرباء لبنان، بل هي في جوهرها مرآة صافية لطبيعة النظام السياسي–الاقتصادي، حيث تتكرّس الاستمراريّة في الفشل مهما تبدّلت الوجوه والعناوين. لذلك، فإنّ مقاربة هذا الملف اليوم لا تستدعي إعادة سرد مراحل الانهيار التي باتت معروفة للجميع، بل تفكيك أسباب بقائه حيّاً رغم كل ما تغيّر شكلياً، ومحاولة معرفة الاطروحة التي يتلوها علينا كل تيّار سياسي وحزبي يتولى مسؤولية هذا الملف.
منذ ما بعد عام 2005، تعاقبت قوى سياسية مختلفة على وزارة الطاقة، بدءاً من وزراء محسوبين على “الثنائي الشيعي”، مروراً بالتيّار الوطني الحر، وصولاً إلى القوّات اللبنانية، ولكن تبيّن ان كل هذه القوى والاحزاب “بريئة” من دم الكهرباء، ولكنها تحمّل المصير المشؤوم الى سلفها، ليتبيّن أن الأزمة كانت، ولا تزال، نتيجة تواطؤ صامت أو عجز متعمَّد أكثر منها نتيجة سوء إدارة فردية، وكان من يتولى وزارة الطاقة يعتبرها بمثابة “بائعة هوى” يرضي من خلالها نفسه والجهة السياسية المحسوب عليها، ويتركها بعدها في سراديب سجون العتمة.
هذا الواقع ينسحب أيضاً على العهود الرئاسيّة المتعاقبة منذ عهد العماد إميل لحود، مروراً بعهد العماد ميشال سليمان والعماد ميشال عون، وصولاً الى عهد العماد جوزاف عون، حيث أُديرت الدولة بمنطق الوصاية والأمن في غياب المحاسبة لصالح الاستقرار السياسي، ولم تشهد السياسة العامة للدولة تجاه هذا الملف انقلاباً فعلياً، لأنّ المشكلة أعمق من موقع الرئاسة وأبعد من صلاحياتها (مع الاشارة الى ان عهد الرئيس جوزاف عون لم يمض منه سوى سنة واحدة، الا ان المساوئ بقيت نفسها حتى الآن).
واذا ما ارنا الابتعاد عن التطرف الطائفي والسياسي والحزبي، فإنه يمكن تفسير استمرار الأزمة بثلاثة عوامل مترابطة:
أولاً: الاقتصاد السياسي اذ تحوّلت الكهرباء إلى مصدر ربح غير مباشر لطبقة واسعة من المستفيدين: أصحاب المولّدات، شبكات التوزيع غير الشرعيّة، وسماسرة العقود والصيانة. أيّ حلّ جذري يهدّد هذه الشبكة، يواجه مقاومة غير معلنة من داخل الدولة وخارجها.
ثانياً: غياب الدولة كمؤسّسة مستقلّة لان العروض العربية والدولية التي قُدّمت للبنان، سواء من دول شقيقة أو من مؤسسات دوليّة، اصطدمت دائماً بسؤال الثقة والحوكمة. لا يمكن بناء شبكة كهرباء حديثة في بلد لا يملك هيئة ناظمة فاعلة، ولا قضاءً مستقلاً، ولا إدارة محميّة من التدخّلات السّياسية، ناهيك عن “الفيتوات” الدولية وعدم الوفاء الاميركي (استجرار الغاز والنفط من سوريا والادرنّ كما كان الوعد الاميركي للبنان فور ترسيم الحدود البحريّة مع اسرائيل).
ثالثاً: تسييس التقنيّة والخوف من الشفافيّة، وهو ما يفسّر عدم التعامل مع الكهرباء في لبنان كملف تقني–اقتصادي، بل كملف انتخابي في احسن الاحوال. ومن نافل القول انّ وضع أي مشروع حقيقي يعني تجهيز عدّادات ذكية، وتفعيل الجباية الفعلية، والكشف عن ارقام واضحة… وهو ما يتناقض مع نظام يعيش على الغموض وتقاسم الخسائر.
ووفق قراءة موضوعيّة بعيدة عن التمنّيات، لا يبدو أن اللبنانيين على موعد مع حلّ جذري في المدى المنظور. ما يمكن توقّعه هو استمرار الحلول البديلة، من مولّدات خاصة وطاقة شمسيّة فردية، تتحوّل تدريجياً إلى نظام موازٍ دائم. في المقابل، ستتآكل فكرة المرفق العام أكثر فأكثر، وتصبح الكهرباء خدمة طبقيّة لا حقاً عاماً، والتأمّل بأيّ تحسّن محتمل، سيبقى جزئياً ومشروطاً، إما بضغط خارجي صارم يفرض إصلاحات قسريّة، أو بانهيار كامل يفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة من أساسها، وهو سيناريو مكلف اجتماعياً وسياسياً.
لذلك، فإنّ أزمة الكهرباء في لبنان ليست أزمة تقنيّة ولا ماليّة فحسب، بل أزمة قرار ونظام. ما لم يُفصل هذا القطاع عن منطق المحاصصة، وما لم تُستعد فكرة الدولة كحَكَم لا كطرف، سيبقى اللبنانيون أسرى الحلول البديلة المكلفة، مهما تغيّرت الحكومات وتبدّلت العهود والوعود…



