اللبنانيون يودّعون منقوشة الجبنة والدفء والحياة الماضية

بين زواريب المصارف وتعاميم مصرف لبنان وسياسات الدولة المالية ودّع اللبنانيون ليرتهم الى الأبد وأقاموا لها مجالس عزاء في كل بيت فرغت خزائنه من المؤونة وخلا براده من اللحوم والخبز والأجبان….ودّعوا مدّخراتهم بالليرة اللبنانية التي لم تعد تكفيهم لشراء مؤونة شهر من المحارم الورقية وورق التواليت. ودعوا السيولة التي كانت تجري بين أصابعهم ويلعبون بها لعباً ولوّحوا من بعيد لدولاراتهم المحفوظة في البنوك، تلك الدولارات التي تشاطروا وحولوها عملة صعبة حين بدأت تباشير الأزمة تلوح في الأفق او هربوها من بلدان اغتربوا فيها ليحفظوها في بنوك الجنة المصرفية اللبنانية فإذا بالتعاميم المصرفية المتتابعة تحولها الى “شم ولا تذوق”.

ودّعوا التعويض الذي شقوا العمر كله ليكون سنداً لهم في أواخر العمر فإذا بليراته تطير وكأنها لم تكن يوماً ويطير معها أمان الشيخوخة وأحلام العمر الثالث. ومن عوّل على معاش تقاعدي يكمل به العمر وجده يقصف له عمره حرقة وغيظاً وفقراً وتعتيراً.

سنة 2021 قال اللبنانيون، أغنياء ومتوسطو الحال وفقراء، وداعاً لأسلوب عيش لطالما نعموا بخيراته وملذاته وحتى بعاداته اليومية البسيطة، أسلوب عيش كان العالم يحسدهم عليه لا بل يحذرهم منه. ودعوا عاملات المنازل والخدم في البيوت ومعهم ملايين الدولارات التي كانت تخرج نحو بلدان كانوا يتباهون بأنهم أفضل منها. ودّعوا السفرات والرحلات السياحية والعطل في باريس وتركيا وشرم الشيخ وودعوا المشاوير البعيدة والكزدرة على طرقات لبنان الجبلية ورحلات البوسطة الترفيهية الى “نهر العاصي” و”بوابة فاطمة “، وجمعوا نذوراتهم الى “مار شربل والقديسة رفقا والحرديني وسيدة لبنان” ليفوها كلها في مشوار واحد، وكادوا يودعون استخدام السيارة إلا للضرورة القصوى…

ودّع شعب لبنان الزيارات العائلية وكيلو البقلاوة وقالب الغاتو يحملونه معهم الى الأهل و”التانتات” وبحسرة ودعوا المشاوي والجمعات العائلية حول المنقل أيام الآحاد والسفر الممدودة في الأعياد والمناسبات واختصروا اللقاءات الى بضع كلمات ومعايدات وصور عبر الواتساب.

مع حلول شتاء 2021 نعى اللبنانيون ببالغ الأسى وسائل التدفئة وودعوا الشوفاج والوجاق ودفاية الكهربا والغاز وكان الآسفون التيار الكهربائي، وصاحب المولد، وصفيحة المازوت وسجّل التاريخ أنه في هذه السنة أمضى أطفال لبنان وشيوخه وعائلاته شتاءهم يرتجفون من البرد ونار أسعار المازوت والمولّد تكويهم. تخلى اللبنانيون لا عن رفاهية كانت لهم بل عن حقوق كفلتها كل قوانين العالم. تخلوا عن حقهم بمياه شرب نظيفة وقالوا وداعاً لمياه الشرب والقضي التي كانت تصل الى خزانات البيوت فإذا بشح المازوت وفشل السدود يمنعها عنهم ويجبرهم على توديعها واستبدالها بسيترنات مياه نتنة تُفرض عليهم.

ودع اللبنانيون “صحاحير” البطاطا وصناديق البندورة والتفاح و”أقفاص” الخس والبقدونس و”أقراط” الموز، فتلك معايير الأيام الخوالي، وصاروا في 2021 يكتفون بالكيلو ونصف الكيلو او بالحبة والضمة. بل إن ثمة عائلات استغنت عن الفاكهة ومعظم أصناف الخضار على موائدها الفقيرة وراحت تفتش بين بقايا أسواق الخضار ومحلاتها عن فضلات عفنة تشكل “طبخة” تسد بها رمق الصغار… وكاد الفقراء يودعون “ربطات” الخبز التي ما انفك وزنها يقل وسعرها يزداد وما عادوا يعرفون ماذا يأكلون او أية “لفة” يحضرون لأولادهم ليحملوها معهم الى المدرسة أو الشارع أو اي حليب أطفال يرضعونهم كما قالت إحدى زوجات العسكريين، بعد أن منعوا عنهم كل أصناف السكاكر والحلويات…

حتى الحمص والعدس والفول وأكياس البازيلا المجلدة والسبانخ المفروم و”مجامع” الطحينة وعلب الحلاوة صارت في بيوت اللبنانيين عملة نادرة واضطر كثر لتوديعها بعد أن وصل سعر كيلو الحمص الى 40000 والطحينة الى160000 وسعر كيس البامية المجلدة الى 50000. لم يتبق لهؤلاء من الحبوب التي كانت مسامير الركب وأكل الرجال إلا بضعة أكياس بسيطة وزعتها الجمعيات الخيرية إعاشات عليهم ولا يزالون يقتاتون من خيراتها…أما اللحوم فصارت “أثراً بعد عين” في حياة اللبنانيين وصارت طبخاتهم بمعظمها “قاطعة” وتحولوا كلهم نباتيين ومن يمتلك القلب القوي لشراء قطعة الفيليه أو الفوفيليه والكستلاتة فيجد نفسه مضطراً لحفظها في خزنة البيت لا براده. وبدأت تطل على شعب لبنان الجائع بين الحين والآخر لحوم واسماك مجهولة المصادر، “محيّرة” اللون والطعم لتكون البديل عن لحوم غابت وأسعار انقرضت.

ومع اللحوم والأجبان والحليب والألبان والحلويات والمخبوزات ودع اللبنانيون ما اعتادوا دوماً أن يدعوا به لمن يحبونه وهو الصحة. فنسيت معظم السيدات إجراء فحوصات الثدي وتجاهل الرجال فحوصاتهم الدورية وما عاد اللبناني المسرسب او الفهيم بأمور الصحة يهرع الى الطبيب كلما أحس بوخزة في صدره او ألم في ركبته ولا عاد الأطباء يجرؤون على وصف صورة رنين مغناطيسي لمن يعاني الماً في وركه او فحوصات عامة لمن يشعر بالدوار… صارت الطبابة لوكس والدخول الى المستشفى عبء ثقيل والتداوي وجهة نظر… وأدوية الـ Counter التي تباع بلا وصفة كالبنادول والفيتامين سي وأدوية الإسهال وأخواتهم صارت في 2021 لزوم ما لا يلزم أما أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية فكادت تغيب عن المرضى لولا تدخل أهل الخير والجمعيات.

وكما ودع اللبنانيون الغاليريات ومحلات الأدوات الكهربائية ومحلات الثياب والأحذية المستوردة وحتى الـ outlet التي كانت تبيع بالرخص وصار رخصها بالدولار ناراً كاوية، ودعوا كذلك الايفون 13 والبروماكس والغالاكسي نوت 20 والغالاكسي 21 ألترا بعد أن كانوا من أوائل من يقتنون الهواتف الذكية عند نزولها، وودعوا السيارات الجديدة من الشركات وتراجع مبيعها وفق إحصاءات جمعية مستوردي السيارات% 28،1 في الأشهر العشرة الأولى من سنة 2021.

باختصار، طوى اللبنانيون صفحة من حياتهم اتسمت بالرفاهية وحلاوة العيش وتحضروا لاستقبال صفحات سوداء لكنهم رغم كل شيء لم يفقدوا الأمل ومع إطلالة العام 2022يدعون من قلب مقروح: ” متل ما ودعنا نلاقي”.

مصدرنداء الوطن - زيزي إسطفان
المادة السابقةالتسوّق “أونلاين” و”الدليفري” ينشطان مجدداً بسبب “كورونا” والتوفير
المقالة القادمةالخسة “زغيرة” وسعرها كبير