حتّى مساء يوم الخميس الماضي، لم يكن مصرف لبنان قد حدّث أرقام الوضع المالي الموجز، أو ما يُعرف بالميزانيّة نصف الشهريّة، منذ نهاية نيسان الماضي. لنحو شهر وأسبوع من الزمن، لم يكشف المصرف أرقامه، التي كان من المفترض أن ينشرها في منتصف شهر أيّار أولًا، وفي مطلع شهر حزيران ثانيًا. لم يصدر أي توضيح أو تبرير، رغم أنّ نشر هذه البيانات على نحوٍ نصف شهري يُعتبر واجبًا على المصرف وفقًا للمادّة 117 من قانون النقد والتسليف. هذه البيانات، والشفافيّة أمام الرأي العام، لم تكن يومًا منّة أو عطاءً من المصرف، بل كانت جزءًا من التشريع الذي أسّس المصرف نفسه وأعطاه الاستقلاليّة. وقبل خطوة إخفاء هذه البيانات مؤخرًا، لم يكن المصرف قد امتنع عن نشر أرقامه منذ تأسيسه.
بعد رفع الصوت إزاء هذا التجاوز الخطير يوم الخميس، في مقالٍ على صفحات “المدن”، وبعد أن سارعت جهات عدّة لاستيضاح المصرف بخصوص هذا التطوّر، سارع المصرف إلى تحديث بيان الوضع المالي يوم أمس الجمعة. هكذا، قام المصرف بنشر الميزانيّتين النصف شهريّتين، لفترتي منتصف أيّار وبداية حزيران، دفعة واحدة. تضاربت التبريرات، بتعدّد “المصادر” التي يخاطب من خلالها المصرف الرأي العام. ثمّة من ربط الأمر بمشكلة تقنيّة، وهناك من أشار إلى كثرة أسفار وانشغالات الحاكم بالإنابة، الذي يفترض أن يوقّع على الميزانيّة نصف الشهريّة قبل نشرها.
لكن المُهم: نُشرت الأرقام، ووعد المصرف المركزي بعدم تكرار الأمر.
الحكاية لم تنتهِ بعد
قبل المضي في تدقيق الأرقام التي جرى نشرها، من المهم الإشارة إلى أنّ حكايتنا مع الشفافيّة ومعايير الإفصاح المالي في مصرف لبنان لم تنتهِ بعد. ثمّة الكثير مما ينبغي تقويمه في ممارسات “القيادة الجديدة” في مصرف لبنان، على هذا الصعيد.
لقد نشر المصرف المركزي ميزانيّته نصف الشهريّة، وأبدى استعداده للالتزام بمواقيت نشرها في المستقبل. لكنّ الغالبيّة الساحقة من المؤشرات التي ينشرها المصرف ما زالت غير محدّثة منذ شهر شباط الماضي. ولمن فاته رمزيّة هذا التاريخ، أي التاريخ الذي توقّف من بعده تحديثه البيانات، فهو لحظة انتقال مصرف لبنان إلى اعتماد سعر الصرف الواقعي في السوق، لإعداد الميزانيّات، بدل سعر 15 ألف ليرة للدولار، الذي تم اعتماده منذ شباط 2023. وفي جميع الحالات، يمكن القول أنّ عدم تحديث هذه البيانات اليوم يمثّل سابقة خطيرة على مستوى معايير الشفافيّة في مصرف لبنان، حيث لم يسبق أن اعتمد المصرف سياسة التعتيم المطلق بهذا الشكل، في أي مرحلة من المراحل السابقة.
أمّا الأهم، فهو أن المصرف ممتنع عن نشر الكثير من تفاصيل بياناته، التي قامت “القيادة الجديدة” بالتصريح عنها في الأشهر الأولى بعد انتهاء ولاية سلامة. ومن هذه التفاصيل مثلًا: حجم الإلتزامات بالدولار الفريش المترتبة لمصلحة القطاع العام أو القطاع المصرفي، من أصل حجم الإلتزامات الإجمالي، التي يتم الإعلان عنها في الميزانيّة. أو حجم الإلتزامات بالليرة اللبنانيّة، مقابل الإلتزامات بالدولار الأميركي، المترتبة لمصلحة القطاع العام. وهذه الأرقام، التي لا يتم نشرها حاليًا، بل تتم الإشارة إليها بشكل غير رسمي عبر “مصادر”، يمكن أن تقدّم الكثير من التفاصيل بخصوص نوعيّة السياسات النقديّة، المعتمدة حاليًا في المصرف المركزي.
لكل هذه الأسباب، أمام اللبنانيين طريق طويلة، قبل أن يستعيد مصرف لبنان الحد الأدنى من معايير الشفافيّة في الإعلان عن أرقامه، ولو وفق الحدود التي كانت موجودة قبل قدوم “القيادة الجديدة” إلى المصرف. إذ من غير المنطقي أن يتحوّل الموقع الرسمي لمصرف لبنان، وفي عزّ الأزمة، إلى “خِربة” أرقام لا تقدّم للقارئ سوى معلومات قديمة لم يتم تحديثها من أشهر، باستثناء الميزانيّة نصف الشهريّة التي تم تحديثها بالأمس. ومن المهم التذكير هنا بأن بعثة صندوق النقد كانت قد أشارت إلى هذه الثغرة خلال جولتها الأخير، رغم إشادتها وإعجابها بالسياسة العامّة التي تتبعها قيادة مصرف لبنان الحاليّة.
الأرقام التي تم كشفها
تفاصيل البيانات التي جرى الإفصاح عنها بالأمس قد تعطي تفسيرًا لسبب تأخّر المصرف المركزي بنشرها، ولو أن فرضيّة “المشاكل التقنيّة” أو “كثرة أسفار الحاكم بالإنابة” تبقى قائمة، إذا ما أردنا الأخذ بحسن النيّة.
وفقًا للأرقام، ارتفع حجم ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان من 4.59 مليار دولار أميركي في نهاية شهر نيسان، إلى أكثر من 4.77 مليار دولار، ما يعني أن المصرف المركزي قد حبس نحو 252 مليون دولار أميركي إضافيّة من الحاصلات الضريبيّة. وبهذا المعنى، بات من الواضح أن المصرف يستمر بسياسة خنق الإيرادات العامّة، لتحقيق هدفين: زيادة حجم الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة الموجودة لديه، وامتصاص أكبر قدر ممكن من الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة. على هذا النحو، يستمر المصرف بتحقيق الاستقرار النقدي على المدى القصير، إنما على حساب السياسة الماليّة للدولة اللبنانيّة، وهي نقطة تتجنّب قيادة المصرف الحديث عنها أو حتّى إظهارها.
النقطة الأهم التي تكشفها الأرقام، هي أن حجم الإيرادات التي يحبسها مصرف لبنان لديه توازي اليوم نحو 1.4 مرّات حجم الإيرادات العامّة المقدّرة في ميزانيّة 2024. ومن المعلوم أن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال المحتجزة تمثّل ودائع قديمة بالدولار المحلّي، بينما يتوزّع الجزء الباقي من هذه الإيرادات بين سيولة بالليرة اللبنانيّة ودولارات طازجة. وفي الوقت الراهن، لا يمكن معرفة حجم الودائع بالنسبة إلى لكل فئة من هذه الفئات على حدة، طالما أنّ المصرف يستمر بالتمنّع عن نشر حجم إلتزاماته بالدولار الطازج لمصلحة الدولة أو المصارف.
من الناحية العمليّة، تشير مصادر مختلفة إلى أنّ المصرف يقوم بتقنين السيولة التي يقوم بتأمينها للإدارات العامّة، وفق أرقام موازنة 2024. غير أنّ المشكلة الأساسيّة تكمن في التفاوت الكبير ما بين أرقام الجباية الفعليّة، أي الأموال التي تحصّلها الدولة من الضرائب، وتقديرات الموازنة نفسها، التي لا تتسم بالكثير من الواقعيّة، والتي تقل بنسبة كبيرة عن الأرقام الحقيقيّة. وهذا ما يسمح للمصرف اليوم بخنق الإيرادات العامّة على هذا النحو، في سبيل تحقيق الاستقرار النقدي لفترة قصيرة من الزمن.
أخيرًا، يبقى من الواضح أنّ المعالم الأساسيّة لسياسة مصرف لبنان النقديّة لا تتسم بالاستدامة على المدى البعيد، فمن غير الواقعي أن يستمر المصرف المركزي بمصادرة الإيرادات العامّة على هذا النحو لمجرّد الحفاظ على استقرار الليرة. مفاعيل ونتائج هذه السياسة لن تقتصر على تحميل دافعي الضرائب كلفة الحفاظ على قيمة الليرة، بل تحمّل هذه الكلفة كذلك لفعاليّة المؤسسات العامّة نفسها، وللدور الاجتماعي الذي يفترض أن تقوم به الدولة. وهذا ما يتجلّى اليوم في تردّي ظروف وإنتاجيّة القطاع العامّة، بسبب نقص الاعتمادات الماليّة المخصّصة له.
والحديث عن هذه المسألة، نقاش لا يريده مصرف لبنان اليوم!