دأبت جمعية المصارف، ممثّلة برئيسها سليم صفير، على رفض كل مشاريع القوانين التي لا تصبّ في مصلحة خطّتها، حتى لو كانت هذه المشاريع مُعدّة بشكل رديء. أبرزها: مشروع القانون المتعلق بإصلاح وضع المصارف المطروح على جلسة مجلس الوزراء اليوم. فهو مشروع أعدّه مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، متغاضين عن القوانين التي تنظّم مسؤولياتهم تجاه التعامل مع الأزمة وإحالة المصارف المخالفة أو المفلسة إلى الهيئة المصرفية العليا، حيث توضع اليد عليها وتحاسب وتصفّى أملاكها وأملاك مجالس إدارتها لتسديد المتوجبات المترتبة عليها، وأولها للمودعين. رغم كل ذلك، جمعية المصارف ترفض المشروع لأنها تريد تحصيل مكاسب أكبر من خلال دفع السلطة إلى استعمال المال العام والأملاك العامة لتمويل إنقاذها بالكامل. لا يكفي أن يتم تهريبها من المسؤولية، بل يجب تدفيع المجتمع ثمناً إضافياً لإنقاذها وإبقائها قيد الخدمة. إنقاذ أملاك المصرفيين وتمويل خسارات ناتجة من سوء ائتمانهم هو المطلوب.حجم رغبات المصارف يأتي انعكاساً لاستمرار نفوذ جمعية المصارف لدى قوى السلطة في مجلس النواب ومجلس الوزراء وفي مصرف لبنان أيضاً. لذا، وجدت نفسها في موقع قوّة لطلب إزالة المشروع من جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء. لكن الرئيس نجيب ميقاتي لم يرَ مانعاً من تحقيق الأمرين معاً لأنه يدرك أن هذا المشروع ليس سهلاً إقراره نظراً إلى حجم التجاذبات حوله المتمحورة حول فكرة «ردّ الودائع». التشابك بين مصالح قوى السلطة وجمعية المصارف أفضى إلى إرسال الجمعية كتاباً إلى رئيس مجلس الوزراء، تحاول فيه تفنيد سعيها لتطيير المشروع، إذ رأت أنه «بحاجة إلى إعادة نظر جذرية، نظراً إلى ما يكتنفه من عيوب، وخاصة بالنسبة إلى الأحكام الاستثنائية». وقالت الجمعية في كتابها إن المشروع «ينطلق من مقاربة خاطئة لا يتوانى عن ذكرها صراحة بين أهدافه العامة (المادة 3 منه) وهي الحدّ من استعمال الأموال العامة في عملية إصلاح وضع المصارف، وتحميل المصارف مسؤولية الأزمة المالية النظامية».
إذاً، صفير ومجموعته لا يكتفون بتحييدهم عن المسؤولية، بل يسعون إلى إنقاذ مصارفهم المفلسة بالمال العام. يأتي ذلك، رغم أنهم حققوا على مدى العقود الثلاثة الأخيرة أرباحاً بقيمة تفوق 22 مليار دولار، بعضها وزّعت نقداً، وبعضها الآخر جرت رسملته في ملكيات مصرفية وتوسيعاً لنطاق العمل محلياً وخارجياً. كما أنهم هرّبوا الكثير من الأموال التي كان يفترض أن تبقى محجوزة مع الودائع من دون أن يمسّهم إجراء واحد. وها هم اليوم يطمحون إلى تحقيق مخطط احتيالي جديد لسرقة ما تبقى من أموال للدولة حتى ينقذوا أنفسهم مرة أخرى. ويتم ذلك من خلال تحميل مسؤولية الإفلاس للسياسات العامة التي أثرتهم على حساب المال العام. إذ يقول صفير: «القاصي والداني يعرف أن الأزمة نتجت من سياسة الدولة ومصرف لبنان في تثبيت سعر الصرف وتغطية مصاريف القطاع العام من مؤسسات (كشركة كهرباء لبنان) وموظفين (سلسلة الرتب والرواتب) وعن تخلف الدولة اللبنانية في تنفيذ التزاماتها القانونية في تغطية خسائر مصرف لبنان التي جرى التواطؤ على إخفائها، عدا عن تبديد ما تبقى من احتياطي مصرف لبنان بعد اندلاع الأزمة وإلزام المصارف بقبض توظيفاتها في القطاع الخاص على سعر الصرف المسمّى خطأ «بالرسمي» وقدره 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد».
جمعية المصارف ممتعضة من عنوان المشروع. بالنسبة إليها المصارف بألف خير و«ليست بحاجة إلى إصلاح، بل بحاجة إلى إعادة الدولة ومصرف لبنان ما أودعته لدى الأخير لتعيده بدوره إلى المودعين»، أي أنه يترتب على الدولة أن تعيد جريان المال العام في شرايين القطاع المصرفي لضمان إنقاذه. ففي هذه الحال، هي «على استعداد للتعاون مع الدولة لإعادة تفعيل القطاع المصرفي وإعادة أموال المودعين، إلا أنه لا يعقل تحميلها وحدها مسؤولية إعادة النهوض ولا معاقبتها، ولا وضعها تحت مقصلة «هيئة خاصة» تقرّر مصيرها منفردة، بموجب قرار واحد نهائي ومبرم».
في القسم الثاني من الرسالة، تتفرّغ المصارف بوقاحة لفرض مجموعة من الطلبات حتى حين تقر بنفسها بأن المشروع «يطبش» لمصلحتها لأنه «يعترف بصورة غير مباشرة بمسؤولية الدولة، إذ يربط تقييم المصارف بحجم الخسارة الناتجة من سندات اليوروبوندز ومن تخلّف مصرف لبنان عن إعادة الودائع». وبحسب صفير «لا يجوز إخضاع المصارف لمهل قصيرة بهدف إعادة تمويلها تحت طائلة التصفية. فالمصارف تحاول امتصاص خسائر لم تتسبب بها ويقتضي مساعدتها». وأيضاً «لا يجوز تحميل أعضاء مجلس الإدارة الحاليين والإدارة العليا وكبار المساهمين والمفوضين بالتوقيع ومفوضي مراقبة المصارف مسؤولية الأزمة التي نتجت بصورة رئيسية من تخلّف الدولة اللبنانية عن تسديد التزاماتها، ولا يجوز حجز أموالهم، إلّا إذا ثبت خطأهم». كذلك يطلب عدم إعفاء «المشاركين في القرارات المقررة لمصير المصارف من تحمّل مسؤولية أخطائهم، ما يشجعهم على الإهمال واللامبالاة». ومن منطلق حرص صفير على محاسبة المخطئين، يبدي استعداده في نهاية الرسالة لوضع ملاحظاته التفصيلية بتصرف ميقاتي، مبدياً استعداد جمعية المصارف للمشاركة في وضع مشروع سليم وواقعي ومتكامل، في سبيل إعادة النهوض بالقطاع المالي». والمشروع السليم والواقعي في قاموس المصارف يعني العفو عن السرقات السابقة وفتح صفحة جديدة تؤسّس لمرحلة عنوانها سرقة أموال الدولة.