أثار قرار رئيسة الغرفة الثانية في محكمة التمييز في بيروت، القاضية مادي مطران، بالحجز على موجودات «فرنسبنك» ضماناً لتحصيل ودائع عدد من الزبائن، لغطاً استغلّه المصرف لترويج ادعاءات يمكن تصنيفها بأنها «كاذبة» وتهدف إلى التأثير مسبقاً في قرار مجلس النواب بشأن مشروع قانون الـ«كابيتال كونترول»، الذي ستدرسه الهيئة العامة قريباً.
القاضية قرّرت أن تكرّس قرار محكمة التنفيذ القاضي بحجز موجودات المصرف ضمانة لتحصيل دين المودعين، رغم أن محكمة الاستئناف قضت بمنح المصرف قوّة الإبراء تجاه الزبائن بواسطة الشيك المصرفي المعروض عند كاتب العدل. وهذا يعني أن الفصل النهائي بالدعوى المقامة لم يحصل بعد، إنما كل ما حصل هو إعادة القضية إلى مسار النزاع الذي لم يبتّ فيه بعد. بمعنى أوضح، الحكم الصادر لم يحسم «الإشكالية الكبرى» بشأن إيفاء الودائع بذات عملة الإيداع وبالطريقة التي يطلبها المودع (نقداً، تحويلاً إلى حساب آخر في لبنان أو الخارج، شيكاً مصرفياً). هذه الإشكالية ما زالت قائمة، وإن كان قرار حجز الموجودات وقرار التمييز يفتحان نافذة عليها. أقوى ما في هذا القرار هو أنه يتيح كبح تعسّف هذا المصرف، وغيره من المصارف التي تدعو الزبائن، بعد إغلاق حساباتهم، إلى قبض ودائعهم بعد إيداعها لدى كاتب العدل بشيك مصرفي مسحوب على مصرف لبنان.
إذاً، المسألة ليست كما يتم تصويرها بأنها انتصار على المصارف. لا يجب الوقوع في غفلة كهذه. ما حصل يمكن اختصاره على النحو الآتي: هناك نزاع قضائي بين «فرنسبنك» وعدد من مودعيه، توكّل عنهم فريق قانوني واحد يمثّل منظمة من المجتمع المدني. ويقوم النزاع على أساس أن المصرف أقفل الحسابات العائدة للزبائن من دون موافقتهم وأودَع شيكاً مصرفياً يوازي قيمتها لدى كاتب العدل، وأبلغ المودعين بأنه أوفى لهم بالدين وأنه بذلك يحصل على براءة ذمّة تجاههم.
لكن المودع رفض هذه الصيغة ولجأ إلى محكمة التنفيذ معتبراً أن الشيك غير قابل للتحصيل، ولا سيما أن هناك مصارف رفضت فتح حساب جديد لإيداعه، وأنه لا يمكن تحصيل قيمته من مصرف لبنان مباشرة، وبهذا المعنى أصبح الشيك مثل أي سند دين. في خضمّ هذا النزاع، يمكن للمودع إذا تمكّن من إقناع القاضي، أن يطلب حجز موجودات الطرف الآخر ضماناً لتحصيل حقوقه، على أنه ليس بالضرورة أن يكون الحكم النهائي في مصلحة المودع، لا سيما أنه يتاح للخصم دحض هذه الرواية. لكن ما حصل عملياً هو أن قرار المحكمة قضى بإجراء جردة لموجودات خزنة «فرنسبنك» في فرعي الحمرا وبدارو، وحجز ما يوازي قيمة المبلغ الذي يطالب به المودعون.
في المقابل، اتّخذ المصرف إجراءات قانونية مضادّة لقرار الحجز، لكن القاضي لم يتجاوب معها. عندها قرّر المصرف استئناف قرار حجز موجوداته. هنا لعبت محكمة الاستئناف دوراً «لعوباً»، لا سيما أن القاضي المعني هو زوج ابنة أحد المصرفيين، إذ أعطى الأولوية لأساس القضية من أجل وقف قرار التنفيذ، معتبراً أنه كان يتوجب على المودع أن يحاول تحصيل الشيك ليثبت بأنه ليس قادراً على تحصيله… هكذا نشأ نزاع متّصل بالتحاجج القانوني يتّصل بالشكل أكثر من المضمون، وانتهى في محكمة التمييز إلى القرار الآتي: «إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل صدور قرار الاستئناف»، و«إعادة الملف إلى المحكمة الابتدائية لمتابعة النظر في القضية من النقطة التي وصلت إليها»، ونوّهت محكمة التمييز بأن «هذا القرار لا يصح اعتباره قرينة ولا يعبّر عن توجّه المحكمة عند فضّها في أساس القضية».
بشكل عام، البتّ في محكمة التمييز يتعلق بالتحاجج الشكلي المتصل بالأصول القانونية، أي أنه لا يتطرّق إلى أساس القضية، كما أن تنويه القاضية مطران بإعادة الملف إلى ما كان عليه قبل صدور قرار الاستئناف، يعني أنها توافق على الإجراءات التي اتخذتها محكمة التنفيذ، وأنها تميل إلى اعتبارها إجراءات سليمة قانونياً ضدّ «فرنسبنك»، وإن كانت لم تصرّح بذلك علناً.
وهنا بيت القصيد: هل يمكن اعتبار الشيك المصرفي لدى كاتب العدل بمثابة سند قابل للتنفيذ؟ وهل يمكن اعتبار أن الشيك المصرفي لدى كاتب العدل هو ليس وسيلة للإيفاء كما اعتبرت محكمة التنفيذ الابتدائية، ولا سيما أن الإيفاء مشروط بالتحصيل؟ إذاً، أي مودع بإمكانه مقاضاة المصرف الذي يمنحه شيكاً مسحوباً على مصرف لبنان لتغطية قيمة وديعته؟ في الواقع، المسألة لم تُحسم بعد، إذ إن القرار النهائي بهذه القضية لم يصدر بعد، وإن كان قرار الحجز على ممتلكات المصرف يرسم معالم أوّلية وتمهيدية للحسم النهائي من دون أن يشكّل عاملاً حاسماً في هذه القضية.
لكن ما حصل بعد ذلك، هو أن مصرف «فرنسبنك»، قرر من تلقاء نفسه أن يغلق أبوابه تجاه الزبائن، وفتح آلات الصرافة الإلكترونية للموظفين في القطاع العام ليتيح لهم تقاضي رواتبهم، ثم أصدر بياناً يقول فيه إنه سيعيد تنظيم قواعد العمل لديه على أساس أن الشيك ليس وسيلة إيفاء، أي أنه سيجبر المقترضين على سداد ديونهم نقداً. أي أنه يقصد الذين أخذوا قروضاً بالدولار أو بالليرة، فصار موجباً عليهم سداد الأقساط نقداً بنفس العملة.
عملياً، لم يقل المصرف ما إذا كان سيرفض التحويلات الآتية من مصارف أخرى لإيفاء دفعات القروض، ولم يقل أيضاً أنه دخل في معركة خاسرة لأن ما يترتب عليه من التزامات تجاه المودعين هو أضعاف ما يترتب على المقترضين تجاهه. لكن الثابت أن هذا المصرف ظهر في موقع المدفوع من مصارف أخرى، حتى بدا متهوراً عندما لجأ إلى رد الفعل الذي قام به. ويبدو أن المصارف المساندة أو المشجعة له، إنما تهدف إلى الضغط أكثر على المجلس النيابي من أجل الترويج لمسألة واحدة: الكابيتال كونترول الآن.
وسرّب أن هذا القرار دفع رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى الاستعجال في تحديد موعد جلسة للهيئة العامة لإقرار مشروع قانون الـ«كابيتال كونترول»، رغم أن نائبه الياس بو صعب حاول ترويج هذه النسخة من مشروع القانون عند صندوق النقد الدولي وفشل في ذلك.
بحجّة الفوضى التي تنتج من النزاع القضائي حول الودائع، سيتم إقرار مشروع قانون يحمي المصارف. بينما يفترض بقانون الـ«كابيتال كونترول» أن يحمي المجتمع اللبناني من الجوع ويحدّد الهدف من استعمال العملات الصعبة التي يملكها سواء في السوق أو في مصرف لبنان، لكن في لبنان المسألة تتعلق بحماية المصارف حصراً، ولو على حساب الجميع.