لم يكن القطاع المصرفي غريبًا عن السيناريو الذي شهدته البلاد منذ يوم أمس، إذ سبق للمصارف اللبنانيّة أن مرّت بتجربة مماثلة في حرب تمّوز 2006، بكل ما شهدته تلك المرحلة من تحديات على مستوى العمليّات والضغط على السيولة. الاختلاف الأساسي اليوم، هو أنّ المصارف لن تضطر لوضع أي إجراءات قسريّة جديدة لتنظيم السحوبات وضبطها، كما فعلت في أولى أيّام حرب 2006، إذ أنّ هذه القيود باتت مفروضة بحكم الأمر الواقع بفعل الأزمة. بهذا المعنى، كان التحدّي الأساسي -وربما الوحيد- للمصارف الآن هو الاحتفاظ بالقدرة التشغيليّة واستمراريّة العمليّات، بمعزل عن التطوّرات الأمنيّة.
بالاستفادة من تجربة العام 2006، وبما أنّ التصعيد الراهن جاء بعد نحو سنة من الاشتباكات التي أنذرت بما هو أصعب، كانت المصارف اللبنانيّة قد وضعت خططها العمليّاتيّة تحضيرًا لما حصل أمس. ولهذا السبب، لم تتأثّر العمليّات المصرفيّة على نحوٍ ملموس، بل كان لافتًا أن إدارات معظم المصارف –وخصوصًا الكبرى منها- امتلكت مرونة التعامل مع الحدث. وفي الوقت الراهن، يتشابه حديث المصادر المصرفيّة العاملة في أعلى مستويات الهرم الإداري، في وعدها بالاستمرار بالعمل “مهما جرى”. بل وتعطي أمثلة عن الخطط التي تم وضعها للتعامل مع أي تصعيد إضافي، يتخطّى حدود ما جرى منذ يوم أمس.
الخطط العمليّاتيّة: مراكز وأنظمة بديلة
وفقًا للمصادر الإداريّة العاملة في القطاع، تشابهت ردّة فعل المصارف الكبرى على أحداث يوم أمس، وفقًا لخططها العمليّاتيّة الموضوعة سلفًا. فحتّى هذه اللحظة، تتخذ المصارف قرار فتح كل فرع على حدة، وفقًا لقاعدة “كل يوم بيومو”. أي أنّ القرار يعتمد على الوضع الأمني السائد في محيط الفرع، بينما يعتمد على العامل نفسه قرار مدّة فتح الفرع. وبموازاة ذلك، قامت المصارف بتحويل عمليّات وموظفي الفروع المقفلة إلى أقرب فرع ناشط، بعدما حضرّت سلفًا خطط الربط المعلوماتيّة التي تحتاجها لذلك. مع الإشارة إلى أنّ المصارف تعتمد في العادة أنظمة معلوماتيّة تحصر اطلاع كل فرع على داتا الحسابات الموجودة لديه، ما يفرض بعض التعديلات لإتمام هذه الخطط.
وفقًا للمصادر نفسها، ما زالت هذه الخطّة كافية حتّى اللحظة لإتمام العمليّات المطلوبة من قبل العملاء. غير أنّ أكبر مصارف القطاع حضّرت مراكز عمليّاتيّة بديلة داخل فروعها الرئيسيّة في بيروت، لتشغيل أنظمة الفروع المقفلة في المناطق وخدمة العملاء، في حال شمل الإقفال محافظات كاملة أو مناطق واسعة من البلاد. وفي حال الوصول إلى المرحلة، ستكون المصارف قد كرّرت تجربة حرب تمّوز، حين أمّنت سحوبات عملاء الفروع المقفلة في الضاحية والجنوب من مراكزها الرئيسيّة، بعد تحضير أنظمة بديلة خاصّة لهذه الغاية. وهذا الاحتمال سيبقى رهن التطوّرات الأمنيّة خلال المرحلة المقبلة، بالإضافة إلى تداعيات هذه التطوّرات على مستوى نزوح موظفي المصارف العاملين في المناطق.
فضلًا عن كل ذلك، اتخذت بعض المصارف إجراءات إضافيّة، تحسّبًا لاحتمال العجز عن فتح المراكز الرئيسيّة نفسها في بيروت. فعلى سبيل المثال، جهّز أحد أكبر مصارف القطاع مركزًا رئيسيًا بديلا في منطقة بعيدة في جبل لبنان، لتشغيل جميع المديريّات المركزيّة، بالإضافة إلى أنظمة الفروع المقبلة. كما جهّز مركزًا بديلًا للمعلوماتيّة في منطقة أخرى، لتشغيله في حال تعطّلت المراكز الرئيسيّة في بيروت.
كل ما سبق ذكره، لا يعني عدم وجود تحديات قائمة. فعلى سبيل المثال، لدى جميع المصارف أنظمتها الداخليّة التي تؤمّن اتصال الفروع مع المديريّة المركزيّة، وفق تقنيّة الإنترانت الداخلي. غير أنّ هذه الأنظمة لن تكون مجدية للتواصل مع الخارج، في حال انقطاع الإنترنت أو الاتصالات على مستوى البلاد، وهو ما يطرح السؤال عن خطط الحكومة لتأمين أنظمة الاتصالات البديلة الكفيلة بتشغيل المرافق الحسّاسة (مثل القطاع المالي). وفقًا للمصادر المصرفيّة نفسها، هذه الخطط غير موجودة حاليًا، إلا على الورق أو التصريحات الرسميّة.
احتمال انقطاع الاتصالات مع الخارج، قد يعرّض المصارف لصعوبات في إتمام التحويلات أو التواصل مع المصارف المراسلة. لكنّه لن يؤثّر على عمليّات المصارف الداخليّة، ومنها تلك التي تُعنى بإدارة السحوبات النقديّة داخل الفروع أو عبر أنظمة الـ “أي. تي. أم.”. فجميع هذه العمليّات، تتم -كما أسلفنا الذكر- عبر الإنترانت وليس الإنترنت (إلا إذا احتاجت عمليّة ما إلى تواصل خارجي، كحال استعمال بطاقات الإئتمان الأجنبيّة أو التابعة لمصارف أخرى).
الضغط على السيولة
كما أشرنا سابقًا، لن تضطر المصارف اليوم إلى مفاجأة العملاء بقيود مستجدة على السحوبات، أو للقلق من احتمال التزاحم على سحب الودائع. فالأزمة التي يعيشها القطاع فرضت أساسًا هذه القيود، التي تقنّن السحوبات ضمن سقوف متدنية جدًا بحسب تعاميم مصرف لبنان. أمّا السحوبات من الودائع “الفريش”، الناتجة عن تحويلات واردة من الخارج، فيقابلها قيمة موازية من الإيداعات “الفريش”، لغرض تمويل التحويلات الصادرة. وهو ما يقلّص الحاجة إلى شحن الأموال تلقائيًا من المصارف المراسلة، بل وربما يفرض –في معظم الأحيان- شحن الأموال بالاتجاه المعاكس، من لبنان إلى الولايات المتحدة.
على مستوى موجودات المصارف الخارجيّة، التي يتم استعمالها لتمويل عمليّات المصارف في الخارج، لم تؤثّر الأحداث حتّى هذه اللحظة على وضعيّة السيولة الراهنة. فخلال النصف الأوّل من السنة، سجّل صافي الموجودات الخارجيّة للقطاع نتائج إيجابيّة (زيادات) في خمس أشهر من أصل ستّة، بينما لم يسجّل انخفاضًا إلا في شهر حزيران. ولغاية أواخر شهر حزيران، كان صافي الموجودات الخارجيّة قد سجّل فائضًا بقيمة 362.9 مليون دولار، بينما مثّلت الزيادات في احتياطات مصرف لبنان العامل الأساسي الذي دعم هذه الاتجاه الإيجابي.
في جميع الحالات، لا يوجد ما يفرض القلق على عمليّات النظام المالي، وما يتم كشفه من خطط وإجراءات يوحي بقدرة إدارات المصارف على تأمين استمراريّة عملها خلال الظرف الراهن. ومن الأكيد أنّ القطاع أصلًا هاجس هذا النوع من الأحداث، بحكم التجارب السابقة، وهو ما طبّع قدرته على التعامل معها. التحدّي الأساسي –بالنسبة للمصارف- خلال الفترة المقبلة لن يكون الحرب، بل قرار مجموعة العمل المالي وسيناريو إدراج لبنان على القائمة الرماديّة. وهذا التحدّي المستمر ناتج عن استمرار الاستهتار بوضع الخطط المطلوبة لإعادة هيكلة القطاع، والتي ساهمت في عرقلتها جمعيّة المصارف نفسها.