في سوق صرف مضطربة تعتريها مخاوف تفشي جائحة كورونا والمستقبل المجهول بشأن توجهات السياسة الأميركية في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يراهن المضاربون على اليورو بينما يبيعون الدولار، كما يستفيد الين الياباني من التوتر السياسي والتجاري والتقني بين واشنطن وبكين، وينخفض سعر صرف الفرنك بسبب شائعة سرت في السوق مفادها أن الإدارة الأميركية ربما تضع سويسرا في قائمة ” الدول المتلاعبة بالعملة”.
وحتى الآن يبدو المشهد في سوق العملات مختلفاً هذا الصيف عما قبله، إذ إن أوروبا نفضت غبار الخلافات وعادت الجاذبية الاستثمارية بقوة للعملة الأوروبية “اليورو”، الذي كسب نحو 10% مقابل الدولار منذ مايو/ آيار الماضي. وهذا أعلى مستوى تبلغه اليورو منذ ست سنوات.
في هذا الشأن يرى خبير العملات البريطاني، كريس تيرنر في تحليل، أن اليورو مرشح للارتفاع إلى مستويات تراوح بين 1.20 و1.25 للدولار حتى موعد الانتخابات الرئاسية في أميركا.
واستفاد اليورو في هذا الارتفاع من الاتفاق الأوروبي الأخير على حزمة الإنعاش البالغة نحو ترليوني دولار والتي شملت لأول مرة تمويلاً عبر إصدار سندات مشتركة لجميع دول الاتحاد الأوروبي، وليس فقط قاصرة على دول منطقة اليورو كما كان في السابق. وهو ما أثار احتمال تبني جميع الدول الأوروبية في المستقبل لعملة اليورو، وتبني البنك المركزي البنك الموحد لدول الاتحاد الأوروبي والتحول نحو ما يطلق عليه” الاتحاد النقدي المثالي” الشبيه بما هو حادث بالولايات المتحدة. كما استفادت العملة الأوروبية كذلك من النجاح الجزئي الذي حققته أوروبا على صعيد السيطرة على تفشي جائحة كورونا مقارنة بالفشل الأميركي.
ورغم أن ارتفاع اليورو خلال الشهرين الماضيين زاد من جاذبية الاستثمار في أدوات المال الأوروبية، خاصة السندات السيادية التي تصدرها الحكومات، ولكنه إذا تواصل ربما لن يكون في صالح النمو الاقتصادي الأوروبي، إذ إنه سيحد من تنافسية البضائع والخدمات الأوروبية في الأسواق الخارجية، خاصة في أميركا وآسيا، وهما من أهم الأسواق للصادرات الأوروبية.
في هذا الشأن، توقع كبير الاقتصاديين والخبير بمنطقة اليورو كارستين بريسكي، في تحليل بموقع ” آي أن جي”، أن يؤدي ارتفاع اليورو إلى تراجع النمو الاقتصادي الأوروبي بنسبة 0.4%، وكذلك إلى تراجع معدل التضخم بنفس النسبة. ولكن البنك المركزي الأوروبي في تقديراته الأخيرة، يرى أن تداعيات ارتفاع اليورو ستكون أضرارها أقل من ذلك على النمو الاقتصادي، كما يتوقع البنك أن يتراجع التضخم بما لا يتجاوز معدل 0.20%. ولكن على المدى القصير فإن تأثير ارتفاع اليورو سيكون قاصراً على منطقة اليورو. إذ إن جائحة كورونا لا تزال تحاصر التجارة العالمية ونمو الصادرات ينحصر في انسياب البضائع والخدمات بين دول الاتحاد الأوروبي وليس خارجها.
أما بالنسبة للدولار، الذي تراجع كثيراً خلال الشهر الماضي، فإن الصعود الكبير الذي شهده في مارس/ آذار الماضي كان بسبب ظروف استثنائية، وهي النقص العالمي الحاد في السيولة الدولارية الذي اضطر المصارف المركزية العالمية للاستدانة بكثافة عبر خطوط الائتمان من مصرف الاحتياط الأميركي لتغطية نقص الدولار في الأسواق المحلية.
ولاحظ محللون أن أزمة السيولة شبه تلاشت في شهر يوليو/ تموز الماضي، وأن استدانة المصارف المركزية العالمية تراجعت من 450 مليار دولار في مايو/آيار إلى 100 مليار دولار حالياً. وهو ما يعني أن الطلب على الدولار تراجع لدى المستثمرين والمصارف والشركات العالمية.
ومنذ بداية يوليو/تموز الماضي يراهن المضاربون على تراجع الدولار، ويهربون في سوق الصفقات الآجلة منه إلى العملات البديلة وشراء الذهب تخوفاً من الخسائر بسبب حال عدم اليقين في السوق الأميركية التي تعاني من تفشي جائحة كورونا والاضطرابات العرقية، كما أن الدولار يعاني كذلك من الاضطرابات السياسية التي قد تصاحب الانتخابات الرئاسية المقرر لها أن تجرى في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني. وحتى الآن يراهن المضاربون في سوق الصرف على احتمال فشل الرئيس الحالي دونالد ترامب أمام منافسه جو بايدون.
وحسب موقع “بريدكت إت” الأميركي المتخصص في توقعات المستقبل، فإن فرص ترامب في الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة تراجعت من 57% في فبراير/ شباط الماضي إلى 43% في الشهر الجاري.
على صعيد العملة الصينية، يلقي التصعيد في الحرب التجارية والتقنية بين واشنطن وبكين على سعر صرف اليوان، وكذلك على مستقبل النمو الاقتصادي للصين. وتواجه المصارف الصينية أزمة سيولة دولارية في الوقت الراهن، إذ إنها بحاجة إلى نصف ترليون دولار لخدمة ديونها الدولارية، وفقاً لبيانات نشرتها وكالة بلومبيرغ الأميركية الأسبوع الماضي ونسبتها لمصادر صينية.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الصيني تمكن من النمو بنسبة 3.2% في النصف الثاني من العام الجاري، إلا أن مخاطر كورونا على النشاط الاقتصادي لم تنته بعد، إذ إن الجائحة تواصل التأثير على القطاع الزراعي وقطاعات البناء والتشييد، وذلك إضافة إلى الآثار الضارة للفيضانات التي شهدتها الصين في الآونة الأخيرة.
وترى الاقتصادية الصينية أيرس بانغ في تحليل بموقع ” آي أن جي”، أن هنالك مخاطر يواجهها سعر صرف اليوان خلال الفترة المقبلة. وتراهن الحكومة الصينية على سقوط ترامب في الانتخابات وربما تمكنها من بناء علاقات توافقية جديدة مع الإدارة الديمقراطية المقبلة بعد فترة من الحرب التجارية الشرسة وكلفتها الباهظة.
كما تأمل الحكومة الصينية في دعم سعر صرف اليوان عالمياً عبر إصدار جديد لـ “وحدة السحب الخاصة” بنحو 500 مليار دولار.
ودعا محافظ المركزي الصيني، يي غانغ، في الشهر الماضي إدارة الصندوق إلى دعم رصيد الصندوق لمقابلة الجائحة . وتقدر أرصدة صندوق النقد حالياً بنحو 12 ترليون دولار. ومن المتوقع أن تساهم مثل هذه الخطوة في دعم سعر صرف اليوان وإن كان بنسبة ضئيلة، إذ إن اليوان أصبح يشكل نسبة من العملات التي تسعر على أساسها عملة الصندوق، “وحدة السحب الخاصة”. ولكن حدوث مثل هذا الخطوة مستبعد لأن الصندوق يقع تحت الهيمنة الأميركية.
أما على صعيد العملة السويسرية، فظل المستثمرون ينظرون للفرنك السويسري على أساس أنه من عملات ” الملاذ الآمن” إلى جانب الين الياباني، وبالتالي شهد الفرنك تدفقات ضخمة في بداية انتشار جائحة كورونا، وهو ما أدى إلى ارتفاع سعره مقابل الدولار واليورو قبل أن يتدخل المركزي السويسري بكثافة لحماية الصناعة السويسرية من أضرار الفيروس، وبالتالي خفض سعره.
ولاحظ محللون أن الضعف الذي اعترى الفرنك السويسري خلال الأسابيع الأخيرة يعود إلى سريان شائعة في أسواق الصرف مفادها أن الولايات المتحدة ربما تضع سويسرا في قائمة ” الدول المتلاعبة بالعملة” في التقرير نصف السنوي المقبل، وهو التقرير الذي أجلته وزارة الخزانة حتى الخريف المقبل.
وحسب مسؤولين في وزارة الخزانة الأميركية فإن البنك المركزي السويسري تدخل بكثافة خلال الشهور الماضية لخفض سعر صرف الفرنك. ولكن رئيس منتدى المؤسسات المالية والنقدية العالمية، مارك سوبيل يرى في تحليل على موقع المنتدى، أن هذا الاحتمال مستبعد، إذ إن تدخل المركزي السويسري لا يعد من الناحية الفنية ” تلاعباً بالعملة”.
يذكر أن لدى سويسرا وضعاً خاصاً بسبب التدفقات المالية الهائلة على مصارفها ووحدات إدارة الثروات التي تدير نحو 3.5 ترليونات دولار من الثروات العالمية.
وبينما يعد الفرنك السويسري ملاذاً آمناً في أوروبا، فإن الين الياباني، يعد من “عملات التحوط” ضد المخاطر في آسياـ وبالتالي من المتوقع أن يستفيد خلال النصف الثاني من العام من اضطراب الدولار واحتمال التصعيد بين واشنطن وبكين. وتستفيد العملة اليابانية منذ شهور من تدفقات الأثرياء في هونغ كونغ على المصارف اليابانية.