بين التقارير التي تخرج إلى الضوء وأخرى لا تزال قيد المتابعة والدرس والتخطيط بشكل سري، يعود الحديث عن إنشاء منطقة اقتصادية خاصة في جنوب لبنان أو ما يعرف ب”منطقة ترامب الإقتصادية” ليطرح أسئلة تتجاوز البعد التنموي الظاهر، وتمس بجوهر التوازنات السياسية والأمنية في البلاد.
فالمقترح، الذي يتم التداول به في كواليس دبلوماسية ويُنسب إلى مقاربة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا يبدو مشروعًا اقتصاديًا صرفًا بقدر ما هو أداة سياسية بلباس تنموي، وإن كان لا يزال مشروعاً على الورق. لكن المؤكد أن التفاوض والنقاش قائم بين الأطراف المعنية أي لبنان والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ودول خليجية.
يتضمن المقترح تحويل منطقة الشريط الحدودي من جنوب لبنان بعمق يراوح بين 3 و5 كلم من ساحة صراع عسكرية إلى منطقة تنموية تستقطب استثمارات وخلق فرص عمل من خلال مشاريع اقتصادية وتجارية تنموية، وهذا يمهد إلى جعل المنطقة الإقتصادية خالية من الوجود المسلح لحزب الله وبالتالي صرف الانتباه عن المواجهة العسكرية وجعل التعاون الاقتصادي أداة لبناء الثقة.
من حيث المبدأ، تبدو الفكرة جذابة. تحويل منطقة لطالما كانت ساحة مواجهات عسكرية واحتلالات إلى مساحة إنتاج واستثمار وفرص عمل. غير أن القراءة الأعمق تكشف أن التنمية هنا ليست هدفًا قائمًا بذاته، بل وسيلة مشروطة بتغييرات أمنية جوهرية، أبرزها إعادة ترتيب الواقع العسكري في الجنوب.
جوهر الطرح بحسب مصادر “المركزية” يقوم على معادلة واضحة: الاستقرار مقابل الاستثمار.بمعنى آخر، ضخ أموال من دول أوروبية وخليجية في الجنوب اللبناني مقابل تحييد المنطقة أمنيًا، أو على الأقل تقليص دور الميليشيات وتحديدا حزب الله والمنظمات المسلحة التي تدور في فلكه. هذه المقاربة، وإن كانت شائعة في السياسات الدولية، إلا أنها تضع لبنان أمام معادلة حساسة تقوم على مبدأ التنمية المشروطة بتنازلات سيادية. فهل يوافق لبنان على الطرح، والأهم هل يرضى سكان الشريط الحدودي الذين دُمرت بيوتهم بالكامل التخلي عن أرضهم وممتلكاتهم مقابل تعويضات مالية ضخمة؟
تذكِّر المصادر بعامل الضغط الإقتصادي الذي تمارسه الدول الكبرى ضد لبنان كأداة لإحداث تحولات سياسية وأمنية لم تنجح أدوات أخرى في فرضها. لكن بالتوازي تعتبر أن أحد أكثر الجوانب المثيرة للقلق هو الغموض المحيط بهوية الجهة التي ستدير المنطقة في حال إنشائها. فالحديث عن هيئات دولية أو شراكات خارجية لإدارة شريط جغرافي حساس يفتح الباب أمام نموذج من “الوصاية الاقتصادية”، تحت عنوان التنمية. وقد يكون بديلاً عن الوصاية الدولية التي يكثر الحديث عنها في إطار وضع لبنان تحت البند السابع في ما لو استمر التقاعس في عملية نزع السلاح وتحقيق الإصلاحات.
والسؤال البديهي الذي يطرح: هل يكون للدولة اللبنانية الحق بامتلاك المرجعية السيادية الكاملة؟ أم يتحول الجنوب إلى نموذج استثنائي، تُدار شؤونه الاقتصادية والأمنية بمعايير مختلفة عن باقي المحافظات اللبنانية؟
تقول المصادر أن المروّجين للمشروع يطرحونه كبديل “منمّق” عن فكرة المنطقة العازلة العسكرية التي تطالب بها إسرائيل. وإذا صح هذا التوصيف، فإن المشروع يكون قد انتقل من خانة التنمية إلى خانة إعادة هندسة الواقع الحدودي، ولكن بأدوات اقتصادية بدل الدبابات. وهذا الطرح، وإن كان أقل صدامية، إلا أنه لا يقل خطورة من حيث النتائج، إذ قد يكرّس واقعًا جديدًا على الحدود، يُفرض تدريجيًا تحت ضغط الحاجة الاقتصادية.
لا شك أن الجنوب اللبناني بحاجة إلى تنمية فعلية ومستدامة، لكن السؤال ليس ما إذا كانت التنمية مطلوبة، بل كيف وبأي شروط. فالتنمية التي تأتي مشروطة بإعادة رسم التوازنات الأمنية والسياسية قد تتحول من فرصة إنقاذ إلى أداة ضغط طويلة الأمد. وهذا ما يأخذه المعارضون للمشروع من أساسه في الحسبان عدا عن أن طرح مشروع مماثل بهذا الحجم والحساسية سيفتح الباب أمام انقسام سياسي حول والسيادة، والعلاقة مع الخارج، مما يجعل من المنطقة الاقتصادية المقترحة مشروعًا خلافيًا بامتياز. كما أن الذاكرة الجماعية في الجنوب، المثقلة بالتجارب السابقة مع الاحتلال والوعود الدولية، تجعل أي طرح خارجي موضع شك تلقائي.
وتختم المصادر، تبدو “المنطقة الاقتصادية في جنوب لبنان” أقرب إلى مشروع تفاوضي يستخدم لغة الاقتصاد لتمرير أهداف سياسية وأمنية، أكثر منها كخطة تنموية مستقلة. وبين إغراء الاستثمارات وخطر المساس بالسيادة، يقف لبنان مرة أخرى أمام اختبار صعب: كيف يستفيد من الدعم الدولي من دون أن يدفع ثمنه من استقراره الداخلي أو وحدته الوطنية؟”



