حدّد مصرف لبنان للمصارف الكميّات المسموح سحبها من حساباتها الجارية لديه بالليرة اللبنانية، ما يعني أنّه بعدما حُرم المودعون من سحب دولاراتهم، سيُفرض عليهم «التقنين» بالليرة أيضاً. يُريد «المركزي» إعادة امتصاص الكتلة النقدية التي ضخّها بنفسه، بحجّة «حماية الليرة» ومنع المضاربات في سعر الصرف، وإعادة المال إلى المصارف. بعد أشهر من التضخم، الاقتصاد أمام مرحلة من الانكماش التي ستكون تبعاتها كارثية
منذ أكثر من شهر، بدأت مصارف مُعيّنة تفرض سقوفاً على السحوبات بالليرة اللبنانية، إن كان من الصندوق أو من صرّافات السحب الآلي التي باتت تعمل وفقاً لدوام مُحدّد ولا تُغذّى بالنقد سوى في ساعات ما قبل الظهر. وحين كان الزبائن يواجهون الموظفين، يأتيهم الجواب: «مصرف لبنان لا يسمح لنا بالحصول على الكميات المطلوبة من حسابنا الجاري لديه». أثار الأمر ريبة المودعين من أن يكون المصرف الذي يتعاملون معه على أبواب الإفلاس… قبل أن يظهر المحجوب.
يوم أمس، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «توضيحاً» ينفي فيه تحديد سقوف المبالغ الممكن سحبها من قبل المصارف بالليرة، فـ«الآلية التي اعتمدها هي وضع سقوف للمصارف لما يمكن أن تسحب من حسابها الجاري لدى مصرف لبنان. وعند تخطّي هذه السقوف تُحتسب المبالغ المطلوبة من حسابات المصارف المُجمّدة لدى مصرف لبنان. ولذلك ليس هناك أي سقف للمبالغ الممكن سحبها من مصرف لبنان. وعندها يكون مصدر التمويل لهذه السيولة مختلفاً، ما يعني أنّه ممكن أن يتمّ السحب من الحساب الجاري لحدّ سقف معيّن، وما يفوق هذا السقف من شهادات إيداع أو من الودائع لأجل». من يكتب بيانات «المركزي»، يتقصّد أن لا يكتب ببساطة حتى لا يفهم المواطنون مغزى الإجراءات. عملياً، قام مصرف لبنان بـ«حماية نفسه» أمام المودعين وأصحاب حسابات الرواتب من أي «موجة غضب»، مُلقياً بعبء المسؤولية على عاتق المصارف.
يقول «المركزي» إنّه لا يمنع المصارف من سحب المبلغ الذي تُريد من الليرات الموجودة لديه، لكنّه أرسل إليها كتاباً يُحدّد فيه السقف الأعلى للسحوبات ممّا يُسمّى «الحساب الجاري»، تتراوح بين 2 مليار ليرة و5 مليارات ليرة شهرياً، تتفاوت بحسب حجم رأسمال المصرف. في السابق، كانت المصارف تحصل على ما تُريد من هذا الحساب. أما الآن، وفي حال أرادت المصارف الحصول على كمية أكبر من الليرات لتغطية طلبات زبائنها، فستُشطب كلّ زيادة إما من حسابات المصارف المُجمّدة لدى «المركزي» وكانت تحصل مقابلها على فوائد مرتفعة، أو من الديون التي أقرضتها لمصرف لبنان، أو من شهادات الإيداع. مثلاً، إذا كانت الفائدة على شهادة الإيداع 10%، وباقٍ 5 سنوات لاستحقاقها، وطلب مصرف «إكس» مبالغ بالليرة تفوق «الكوتا» المُخصّصة له، فستُشطب الفائدة عن كلّ سنوات الاستحقاق وليس عن السنة الحالية فقط. هذا الإجراء تُعدّه المصارف «خسارة» لها، بعدما تحوّل مصرف لبنان إلى الزبون شبه الأوحد للمصارف، ولم يعد لها «مصدر إيرادات» غيره. في اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان أمس، انتُقدت المصارف بأنّ «المبلغ بالليرة الذي كانت تسحبه شهرياً، باتت تطلبه أسبوعياً»، وقد سمع الحاضرون اتهاماً من سلامة للمصارف بأنّها «تأخذ الليرة وتُبادلها بالدولار لدى الصرّافين»!
بمعزل عن لعبة المدّ والجزر بين جناحَي القطاع المصرفي، لقرار سلامة تأثير عميق على قدرة المواطنين الشرائية وتأمين احتياجاتهم. بمليون أو مليونَي أو ثلاثة ملايين ليرة لبنانية شهرياً، كيف ستتمكّن عائلة مُكونة من أربعة أفراد من دفع الإيجار أو قسط المنزل، وتأمين الحاجيات الأساسية، ودفع أقساط المدارس، وشراء الأدوية، ودفع فحص «كورونا»؟ لن تقدر. المواطنون في لبنان سيكونون أمام نوعٍ جديد من الذُلّ المفروض عليهم من مصرف لبنان والمصارف من جهة، والدولة من جهة أخرى التي تخلّت عن دورها ولا تُريد أن تحسم ما هي سياستها الاجتماعية والاقتصادية.
«عِوض أن يقوم المصرف المركزي بخفض قيمة العملة، قام بخفض قيمة رواتب وأموال الناس، عبر تحديد عمليات السحب. يتمّ استخدام أدوات نقدية لإحداث تغييرات جذرية في السلوك». التعليق للخبير المالي، دان قزي الذي يشرح أنّ «سلامة يُريد إلغاء الدعم على السلع الأساسية، ورئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب رفض الإجراء، فقرّر الحاكم أن يُخفّض الاستهلاك. حالياً، بات المواطن مُضطرّاً شهرياً الى أن يُحدّد على ماذا سيصرف المبلغ القليل الذي يحصل عليه: يشتري البنزين أم يذهب إلى المطعم أم يشتري الدواء المدعوم؟». يُقارن قزّي بين إجراء تخفيض الاستهلاك في لبنان، وبين دول أخرى «كالولايات المتحدة التي تزيد نسبة الضرائب لتدفع الناس إلى تخفيف استهلاك البنزين، لأنّ هذه يجب أن تكون سياسة حكومية».