أخيراً وبعد سنتين ونصف من الانهيار المالي، توصّلت الحكومة اللبنانية الى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي. خطوة أولى مهمة، ولكن هل تطبق حكومة ما بعد الانتخابات شروط هذا الاتفاق للحصول على الدعم؟ أم يبقى مثل الكثير من سابقيها حبراً ووعوداً على ورق؟ سيؤدي الاتفاق اذا طبّقت الحكومة القادمة شروطه المسبقة الى حصول لبنان على دعم من صندوق النقد بمبلغ مقداره 3 مليارات دولار، مقسّطة على 4 سنوات. وطبعاً، تأمل الحكومة اللبنانية في انّ يشجع هذا الاتفاق دولاً صديقة ومانحة على الانضمام اليه لان ما يحتاج اليه لبنان من دعم مادي هو اضعاف اضعاف ما وعد به صندوق النقد، وبرأيي لا يقل عن 25 مليار دولار. اولاً، ضروري التذكير ان الاتفاق المبدئي ما هو الا اول خطوة في مشوار طويل لا يزال يفصلنا عن وصول الدعم. والأهم من الاتفاق المبدئي هو أن تطبّق السلطات اللبنانيّة الشروط المسبقة التي فرضها الصندوق في الاتفاق المبدئي، وبعض هذه الشروط اصلاحات جذرية تشكل تهديداً وجودياً للطبقة الحاكمة وأتباعها. وستواجه بلا شك بمحاولات التعطيل والتمييع والتأجيل التي عهدناها في كل وعود الإصلاحات السابقة. لكن هناك شروط أخرى قاسية وغير عادلة وخاصةً على المودعين. وكان يتوجّب على الفريق الحكومي التفاوض عليها بشكل أفضل، ويجب إعادة النظر بها. وأبرزها ان الاتفاق ينص على شطب 60 مليار دولار من ديون البنك المركزي. هذا رقم ضخم جداً ينعكس مباشرة خسائر جسيمة على المودعين.
من الجدير بالذكر ان الاسواق المالية لم تتأثّر ايجاباً باعلان الاتفاق بين حكومة لبنان وصندوق النقد الدولي. فلا اسعار سندات اليوروبوندز تحسّنت عند الاعلان عنه ولا سعر الصرف تحسّن. وهذا أبلغ دليل على أن الثقة بقدرة ونيّة السلطة الحاكمة على تطبيق الشروط المسبقة الواردة للوصول الى الدعم المالي أضعف من ان تراهن عليها الاسواق.
لماذا استغرق الوصول الى اتفاق أوّلي مع صندوق النقد كل هذا الوقت، وهو تأخر غير مسبوق في اي ازمة مماثلة معاصرة؟
وهل كان بالامكان الوصول الى بنود افضل للبنان، خاصة من ناحية حماية المودعين، وهم منذ اندلاع الازمة الخاسر الأول وسيكونون اذا ما طبق الاتفاق الخاسر الأكبر؟
1 – لماذا صندوق النقد؟ أنا لست من هواته… لكن آخر الدواء الكي للأسف!
من البديهيات في اي دولة تمر بأزمة مالية سببها العجز في الحساب الجاري او العجز في الموازنة ان تلجأ الى صندوق النقد، وهذه مهمته الاساسية، لمساعدتها على معالجة أزمتها.
لم أكن يوماً من هواة صندوق النقد وهو آخر الدواء اي الكي. وغالباً ما تكون حلوله موجعة واحياناً غير ناجحة. لكن عندما يصبح المصدر الوحيد للحصول على التمويل والسيولة بالعملات هو صندوق النقد فهذا اهون الشرور، والا فلا تمويل ولا سيولة ومزيد من الانهيار بلا اي قعرعلى غرار ما نشهده منذ سنتين ونصف.
في لبنان نعاني من عجز مزدوج ومنذ سنوات: عجز قياسي في الموازنة وعجز قياسي في الحساب الجاري.
أمعنت السلطات على سنوات في تجاهل هذا العجز المزدوج، وموّلت كل منهما من اموال المصارف، اي عملياً من اموال استدانتها من المودعين وبلا حدود ولامسؤولية وحتى الانهيار.
عندما شحّ تدفق الودائع وفقد المستثمرون اي أمل او ثقة في اصلاح مالي موعود، انهارت منظومة التمويل الهشة هذه، وانهار معها هيكل النظام المصرفي والبنك المركزي وانفجرت القنبلة الموقوتة التي حذرنا منها على سنوات.
عندما تنعدم القدرة على تمويل العجز في الحساب الجاري والعجز في الموازنة… اين المفر؟
الخيار الخطير هو ان تستقيل الدول من مسؤوليتها وتتخلّى عن تمويل هذا العجز المزدوج. وتتركه على مجراه الى ان يستقر على مستوى توازن طبيعي وبكلفة غالية جداً.
العجز في الحساب الجاري إذا تركناه على مجراه تكون النتيجة عندها تدهور العملة وتفاقم التضخم وتلاشي القوة الشرائية وافقار الشعب. وهذا تحديداً ما يحصل في لبنان منذ سنتين ونصف ولا يزال مستمراً.
والعجز في الموازنة إذا توقفت الدولة عن تمويله تكون النتيجة وقف النفقات الى الحد الأدنى منها، ويليها التعثّر عن تسديد استحقاقات الدين الخارجي وتوقف المصاريف الاستثمارية والخدماتية وتدهور الخدمات وانكماش الاقتصاد وارتفاع البطالة وانهيار البنى التحتية. وهذا كذلك ما نشهده في لبنان منذ سنوات.
أما الخيار الثاني المنطقي فهو ان تستعين الدول بمصدر تمويل خارجي بديل، لتحصل على متنفس يمدّها بالسيولة ويسمح لها بتمويل حاجاتها الاساسية ويعطيها الوقت الكافي لضبط الانهيار، ولتنفيذ خطة تعاف مالية اقتصادية للخروج من الأزمة والنهوض مجدداً. وهنا بالتحديد دور صندوق النقد او دور اي دول مانحة مستعدة لتقديم الدعم مقابل خطة مقنعة للتعافي.
السلطات اللبنانية ومنذ اول اندلاع الأزمة اعلنت انّها ستسير بالخيار الثاني. اي الحصول على دعم من صندوق النقد مقابل خطة إنقاذية. لكنها فعلياً طبّقت الخيار الأوّل اي الاستقالة من مسؤولياتها والتخلّي عن معالجة الازمة الا بإجراءات.
بالقطعة والترقيع واستنزاف الاحتياط، وترك الامور تتفاقم. وكان ان اضعنا اكثر من سنتين منذ اندلاع الازمة.
2 – سنتان من تضييع الوقت: ابحثوا عن المصالح الخاصة التي شهدتها بأم العين شخصياً في حكومة سابقة
لماذا كل هذا التأخير؟ لان اي خطة منطقية للتعافي الاقتصادي ستطبق مبادئ بديهية وعلمية في تراتبية توزيع الخسائر. وستلتزم بشروط اصلاحية وواضحة في الحوكمة والشفافية. وهذه المبادئ وهذه الشروط تهدّد حتمياً وجودية الطبقة الحاكمة وسلطتها في الصميم وتتعرّض لمصالحها الخاصّة، ومصالح شركائها الذين يتحكمون بالاقتصاد. ومنهم اصحاب مصارف واصحاب ثروات واصحاب اعمال.
اي اصلاحات يطلبها صندوق النقد او اي جهة مانحة، كانت ستضع حداً لمنظومة ونهج استولى على الدولة ومؤسساتها منذ عقود وسخّر كل مكوناتها في خدمة مصالحه وإثراء زبائنه.
اذاً، كان هناك تناقض عميق بين اي خطة تعاف انقاذية جدية ومنطقية يقبل بها صندوق النقد او اي دولة مانحة وبين طبقة سياسية وحاكمة مبرر وجودها، منذ عقود، هو السيطرة على الدولة واستغلال مواردها بلا محاسبة. هذا التناقض بين مصلحة البلد ومصلحة الحكّام شهدناه في المرحلة الاولى من المفاوضات مع صندوق النقد. وهذا ما عطّل اول جولة محادثات بين اوائل 2020 واواخر 2021.
وهو نفس التناقض الذي شهدناه في كل محاولات الانقاذ السابقة. وانا عشته شخصيّاً خلال تجربتي في آخر حكومة قبل اندلاع الأزمة. يومها، كان برنامج حكومتنا تطبيق الاصلاحات الني نص عليها مؤتمر سيدر، والحصول على دعم الـ11 ملياراً الذي خاضت القوى الحاكمة انتخابات 2018 على اساسه. هذا الدعم التزمت به يومها الدول المانحة تجاه لبنان لاطلاق ورشة مشاريع بنى تحتية ضخمة وطموحة، كان المفروض منها استعادة النمو والنهوض بالاقتصاد. كان مؤتمر سيدر ومشاريع سيدر على علّاتها خرطوشة الفرصة الاخيرة لادخال استثمارات وتحريك الاقتصاد قبل الانهيار. امضينا 10 أشهر في تلك الحكومة التي لم تنفّذ اي اصلاح ولم تطلق اي مشروع. لماذا؟ شهدت كيف تعتمد القوى الحاكمة والأحزاب تضييع الوقت، والمراوغة، والتذاكي على الدول المانحة، وغالباً الكذب عليها. لتأجيل او تجنب اي اصلاح يهدد مصالحها ويقوّض سلطتها.
نفس النمط في تضييع الوقت، والمراوغة، والتذاكي والنكران بقي سائداً بعد الانهيار. لم تعتبر الطبقة الحاكمة من الماضي بل تفانت في حماية المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة والمنطق المالي السليم.
النتيجة كانت في اول سنتين بعد الانهيار تضييع الوقت وهدر 20 مليار دولار اضافي من الاحتياط، وتوسيع فجوة الخسائر المالية بينما الازمة تتفاقم بدون قعر.
في اول جولة مفاوضات مع صندوق النقد اجهضت الطبقة الحاكمة خطة الانقاذ التي قدمتها لازار وحكومة الرئيس دياب، ودفنتها بعد ان اغرقتها في محاولات تذاكٍ لتخفيف الخسائر وهرطقات محاسبية لنكران الفجوة المالية في مصرف لبنان، وتجنيب اصحاب المصارف الاعتراف بزوال رساميلها. يومها شنت المصالح السياسية والخاصة الهجوم على خطة لازار، وشككت في تقديرها للخسائر واجبرت حكومة الرئيس دياب على التراجع عن الخطة.
بعد سنة ونصف، جاءت الجولة الثانية من المفاوضات مع صندوق النقد مع حكومة الرئيس ميقاتي وتعاملت الحكومة بداية بواقعية أكبر مع صندوق النقد. ووافقت السلطات على الاقرار بالخسائر تقريباً كما وردت سابقاً في خطة لازار، اذ لم يعد يجدي النكران. واعترفت بالفجوة المالية في مصرف لبنان، وبالتالي بزوال رساميل المصارف وضرورة اعادة هيكلتها. لكن محاولات حماية المصالح الخاصة انتقلت من عملية الإتفاق على تقدير الخسائر الى عملية توزيع الخسائر.
على سبيل المثال: اقترحت احدى النسخ التي قدمها الفريق المفاوض لصندوق النقد ان يتملك كبار المودعين 43 بالمئة من المصارف بعد اعادة هيكلتها لتعويضهم عن خسارتهم في 48 مليار دولار من الودائع. كما اقترحت ان يحافظ المساهمون الحاليون في المصارف على 52 بالمئة من القطاع لتعويضهم عن خسارة 20 مليار دولار من رساميل شرط ان يضخّوا مليار دولار فريش من الخارج، لإعادة رسملة مصارفهم. وإذا لم يضخوا مليار دولار، اقترحت الخطة ان يحتفظوا بـ20 بالمئة من القطاع.
بمعنى آخر، بعد اعادة هيكلة المصارف وتنقيح ميزانياتها وتكبيد المودعين خسائرهم ومسح رأسمال المساهمين كلياً، يعود المساهمون انفسهم ويستحوذون على اكثر من نصف القطاع المنقّح، مقابل مليار دولار فقط، او يستحوذون على 20 بالمئة من القطاع بدون اي مقابل.علماً انه في العام 2018 وحده بلغ توزيع الارباح من المصارف على المساهمين أكثر من مليار دولار. اين العدالة والمنطق المالي في هذا الطرح؟
طبعاً استشاط صندوق النقد غضباً من تكتيكات التذاكي المستمر في الخطط المطروحة، وغياب مبادئ التراتبية العلمية البديهية التي تحمي المودع أوّلاً، قبل اي مكون آخر، ومن غياب معايير العدالة الاساسية. لذلك رفض الصندوق اقتراح الحكومة هذا، وعاد بشروط قاسية على الدولة والمصارف. وهذا ما تم الانفاق عليه في الاعلان المبدئي وتحت ضغط الوقت والانتخابات القادمة.
3 – الصندوق لم يرحمنا بمطرقته بعدما فقد صبره من محاولات الانكار والمراوغة والتذاكي… والكذب
للأسف، بدل ان يركّز الفريق اللبناني مع الصندوق على مبادئ اساسية في اعادة الهيكلة، وفي التفاوض مع صندوق النقد وهو ليس مفاوضاً سهلاً، وبدل ان يسخر كل قواه وموارده للدفاع عن المصلحة العامة ومصلحة المودع والمواطن ومصلحة القطاع المصرفي كقطاع حيوي لا كجمعية مساهمين، وبدل ان يتمسك بأصول ومبادئ اساسية لتحقيق اتفاق عادل ومتوازن مع الصندوق… أضعف موقفه وأنهك الصندوق وأفقده صبره في محاولات النكران ثم المراوغة ثم التذاكي على مدى اكثر من سنتين لحماية مصالح ضيقة وخاصّة. وكانت النتيجة ان استراتيجية التفاوض اللبنانية مع الصندوق تجاهلت خصوصيات اساسية في الازمة اللبنانية وفشلت في اقناع الصندوق بهذه الخصوصية واخذها في الاعتبار. وجاءت ردة فعل الصندوق قاسية، ووصلنا الى اتفاق مبدئي لا شك ان فيه اصلاحات جيدة ومطلوبة لكن كذلك فيه شروط قاسية تتجاهل المودع اللبناني، وتتجاهل هذه الخصوصيات الاساسية التي تجعل ازمة لبنان أكثر تعقيداً من ازمات اخرى.
4 – اين الخصوصية الأساسية في ازمة لبنان؟ حاملو الدين العام لبنانيون عاديون بأغلبيتهم
تعامل الصندوق مع لبنان كما يتعامل مع الكثير من الدول الناشئة المتعثرة، حيث يلتزم بشرطين اساسيين لأي تمويل: تخفيض نسبة الدين العام للناتج المحلي تحت 100%، وتكبيد اكبر قدر من الخسائر لحاملي الدين العام السابقين حتى يحل الصندوق محلهم ويحمي نفسه قبلهم، وهو ما نسميه سياسة معاقبة الدائن. الا ان خصوصية الوضع اللبناني بالنسبة لدول متعثرة اخرى مرت بأزمات سابقة هي خصوصية فريدة
واساسية ولا يمكن تجاهلها:
أولاً، ان حاملي الدين اللبناني بأغلبيتهم هم لبنانيون وبالتحديد مصارف لبنانية ووراؤها مودعون لبنانيون، يعني هم مواطنون عاديّون ومدّخرات وصناديق تقاعد الخ.
غير وارد التعامل مع المودع المواطن اللبناني العادي كما يتم التعامل مع مستثمر محترف ملم بالمخاطر ونتائجها. الدولة اللبنانية لديها مسؤولية اجتماعية جسيمة تجاه المودع اللبناني. ولا يمكن مساواته بالمعاملة بصناديق استثمار عالمية مثل غولدمان ساكس وفيدلتي وبلاكروك وغيرها.
والخصوصية الثانية ان هناك تعثراً مزدوجاً في لبنان لا تعثر واحد فقط. فالدولة اللبنانية تعثرت عن تسديد 32 مليار دولار من سندات اليوروبوندز. لكن المصرف المركزي كذلك مفلس ولديه ديون تتعدى الـ85 مليار دولار وخسائر تفوق الـ50 ملياراً. هذه الديون كذلك مسؤولية الدولة قانونياً وادبياً ولا يمكن تجاهلها.
خاصة ان الكثير من هذه الخسائر سببها استخدام البنك المركزي لاموال الاحتياط لتلبية مصاريف الدولة وحلوله مكان الدولة في انفاقها. وهذا يعني ان هذا الانفاق من الاحتياط كان نيابة عن الدولة، ويجب تسجيله ديناً على الدولة تجاه الاحتياط اي تجاه المودعين.
اذا، فعلياً الدين العام بالعملات المطلوب اعادة هيكلته في حالة لبنان هو مجموع ديون الدولة وديون البنك المركزي. وهو اذاً يفوق الـ115 مليار دولار اي أكثر من 575 بالمئة من الناتج المحلي. وهذا رقم مهول ومن المستحيل تخفيضه الى 100%من الناتج القومي بدون اوجاع رهيبة تطال الدائنين أي المودعين.
وبما ان الدائنين في مواجهة البنك المركزي هم حصرياً مصارف لبنانية وبالتالي اموال المودعين، اذاً فعلياً المصارف اللبنانية ومن ورائها المودعون يملكون على الاقل اليوم 95 مليار دولار من الديون المجتمعة اي يشكلون 82 بالمئة من مجمل الدائنين للدولة والبنك المركزي. وهذا كذلك رقم هائل غير مسبوق. فكيف نطبق سياسة معاقبة الدائن التقليدية في حالة لبنان اذا كان اكثر من 80 بالمئة من الدائنين يمثلون اموال مودعين مواطنين لا مؤسسات استثمارية أجنبية محترفة؟ وبالتالي ستضرب هذه السياسة المودع اللبناني اولاً. والنتيجة ستكون اوجاع رهيبة وكارثة إجتماعية وتدمير مدّخرات مئات الآلاف من العائلات؟
هذه ارقام مخيفة لا سابقة حديثة لها. وهي تبين هول الكارثة وآثارها، وبالتحديد مفعولها المعيشي الاجتماعي على مئات الآلاف من المودعين اللبنانيين وعائلاتهم وعلى صناديق التقاعد وغيرها.
للاسف، هذه الخصوصية كان يجب ان تكون في صلب المفاوضات ونقطة الانطلاق في التفاوض. ولا يمكن الاتفاق مع الصندوق اذا تجاهلناها. وهي تجعل تطبيق وصفات صندوق النقد وشروطه التقليدية مستحيلة. وتفرض على الفريقين التأقلم مع واقع استثنائي وأليم، والتفكير خارج الحلول المعلبة.
لم يحصل هذا التأقلم، ولم يظهر في شروط الاتفاق المبدئي مع الصندوق، بل بالعكس شهدنا شروطاً وآليات تقليدية وقاسية كما ذكرت أعلاه. ابرزها شرط شطب 60 مليار دولار من ديون البنك المركزي بشحطة قلم، بالرغم من المفعول القاسي على المودعين وشرط تخفيض التزامات الدولة تحت نسبة الـ100%من الناتج المحلي وبسرعة.
بالمختصر، عندما جلست الدولة امام صندوق النقد كان يجب ان توفق بين دورين:
الدور الاول تمثل فيه دولة متعثرة تسعى الى الدعم مقابل اعادة هيكلة ديونها وتخفيف اعبائها.
والدور الثاني تمثل فيه مصلحة مئات الآلاف من العائلات اللبنانية وصناديق التقاعد خسرت اموالها وتقاعدها وجنى عمرها وهذه كارثة اجتماعية لا يمكن تجاهلها.
هل كان يمكن التوفيق بين هذين الدورين؟
7 مبادئ وأفكار لتحسين وضعية المودع اللبناني في أي إتفاق مع صندوق النقد
هل يمكن اعادة النظر في بنود الاتفاق مع الصندوق لتحسين وضع المودعين؟
ليس الامر سهلاً ابداً، والصندوق مفاوض صعب يبحث عن حماية مصلحته اولاً.
وطبعاً من الصعب اقناع الصندوق بأي تعديل اليوم بعد سنتين ونصف من تضييع الوقت. وقد نفد صبر الصندوق معنا، ولكن من الضروري المحاولة مجدداً. لان الأخطر من عدم الاتفاق هو ان نوافق على برنامج قاس وغير واقعي يكون مصيره الفشل واوجاعه قاسية على الشعب.
لا اود ان اكتفي بالتنظير. ولذا احب ان اعرض بتبسيط هنا خطوطاً عريضة وافكاراً اولية كان يجب برأيي ان تشكل اساس الموقف اللبناني في المفاوضات مع الصندوق. وكان ممكن ان تؤدي لتحسين مصير المودعين اللبنانيين في اي اتفاق مع الصندوق اذا أصرينا عليها او حصلنا على بعض منها.
1 – الدولة مسؤولة عن ديونها وكذلك عن البنك المركزي. خاصة الديون المترتبة على البنك المركزي من جراء حلول البنك المركزي محل الدولة في الانفاق، مثل تسديد اليوروبوندز في الماضي، وسلف الخزينة والكهرباء والانفاق على الدعم الخ. هذه الديون سببها الدولة ويجب ان تتحمل مسؤوليتها الدولة تماماً كما تتحمل مسؤولية اليوروبوندز.
2 – تطبيقاً لذلك يجب اصدار سندات من الدولة تسجل كل هذا الانفاق من الاحتياط نيابة عن الدولة كدين عام ويستفيد من هذه السندات المودعون مباشرة (وليس المصارف) لتعويض بعض خسائرهم الناتجة عن استعمال الدولة للاحتياط لتلبية مسؤولياتها من اموالهم. وهذا التدبير عين العدل وحق بديهي.
3 – لا يجوز معاملة حاملي اليوروبوندز، وهم الذين دينوا الدولة مباشرة بطريقة افضل من معاملة حاملي سندات البنك المركزي الذين دينوا البنك المركزي وعبره الدولة، خاصة ان حاملي سندات البنك المركزي يمثلون اموال المودعين اي عامة الشعب اللبناني، بينما اغلب حاملي اليوروبوندز اليوم هم مستثمرون محترفون وكثير منهم مؤسسات اجنبية متمرسة بالمخاطر، وتستثمر عن دراية ومعرفة. إذا المساواة في المعاملة واجب.
4 – يجب نقل اي حقوق للمصارف على الدولة او البنك المركزي الى المودعين مباشرة. اي لا نحتاج ان تلعب المصارف دور الوسيط بين المودع والدولة. فالمصارف يديرها المساهمون وهي اثبتت انها تدافع اولا عن حقوقهم لا عن حقوق المودعين، وهي عملياً افلست بكل الاحوال. لذلك أي حق لها على الدولة او على البنك المركزي يجب ان يستفيد منه المودعون مباشرة واولاً. وهذا بديهي حسب مبادئ التراتبية في توزيع الحقوق والخسائر. وهو ما طرحته شخصياً سابقاً ومراراً في اقتراحي اعادة هيكلة المصارف حسب منهجية الفصل بين «البنك الجيد والبنك السيئ».
5 – ضحايا الازمة وتعثر الدولة والبنك المركزي والمصارف نوعان: النوع الاول هو مستثمرون ومحترفون ومضاربون استثمروا في السندات والودائع سعياً وراء الربح والعوائد العالية. وهم على دراية والمام وتقبل للمخاطر، ومنهم مؤسسات دولية ومستثمرون اجانب، وهم يتحملون اذاً مسؤولية استثماراتهم والخسائر.
اما النوع الثاني فهو المواطن العادي الذي أودع امواله في المصرف لانه الخيار الوحيد المتوفر لديه ولا يملك الاحتراف ولا الخبرة لتوظيف الاموال. واكتفى بالاتكال على المصرف وأمنه على مدخراته ووثق بمعايير الملاءة والسيولة التي كانت المصارف والهيئات الرقابية تتباهى بها.
لا تجوز معاملة النوعين بنفس الطريقة: النوع الاول محترف خاطر عن معرفة وخسر جزءاً فقط من توظيفاته. والنوع الثاني مواطن عادي أمّن على مدخراته وخسر جنى العمر. كيف نعدل ونميّز بحق بين النوعين في عملية توزيع الخسائر؟
6 – يجب على الدولة ان تنشئ صندوق تعويض مالي مستقلاً لضحايا الانهيار المالي. ولتخفيف وطأة الكارثة الاجتماعية على المودع اللبناني. والهدف من الصندوق ان تتحمل الدولة مسؤولياتها تجاه المودعين العاديين وعلى الاخص المواطن اللبناني الذي خسر مدخراته اذا كان مصدرها شفاف ونظيف، ولا يستفيد من الصندوق الا من يستحق ذلك حسب معايير واضحة. وهذه الحماية من مسؤوليات الدولة وواجباتها تجاه مواطنيها. ولا تختلف بشيء عن شبكات الحماية الاجتماعية الأخرى.
7 – يحق للدولة ان تمنح هذا الصندوق بالتحديد وليس كل الدائنين، دعماً خاصاً من ميزانيتها.
ويتم ذلك مثلاً عبر اصدار سندات خاصة اضافية لتخفيف خسائرهم. على ان تكون سندات مشروطة، اي ان عائدها مرتبط بتحسن المالية العامة او بتحسن ايرادات اصول الدولة او بغيرها من الموارد. وهذا لا يرتب على الدولة اعباء اضافية الا اذا تحسن وضعها المالي. وهذه الادوات معروفة بالـ contingent liabilities او convertible bonds او غيرها.
بالخلاصة، هذه خطوط عريضة ومبادئ عامة يجب تفصيلها وتعميقها. وطبعاً كلفتها وآليتها تتعارض مع شروط الصندوق في تخفيض العجز والدين بطريقة حادّة وسريعة.
لكنها برأيي كان يجب ان تشكل اساس مطالب الفريق اللبناني في المفاوضات مع صندوق النقد للوصول الى حلول مقبولة وعادلة. وكان يجب ان تكون ورقة لبنانية مهمة في النقاشات.
كان على الطرف اللبناني ان يدخل المفاوضات مع صندوق النقد حاملاً لواء الدفاع عن المودع اللبناني ومتمسكاً بخصوصيات الأزمة اللبنانية، حيث ان المودع اللبناني هو اهم دائن وأكبر ضحية وهذه قضية حق وعدالة، بدل ان يضيع وقته ووقت الصندوق أكثر من سنتين، وهو يفاوض على قيمة الخسائر وتوزيعها بما يتعارض مع ابسط منطق علمي او مالي ومع مبادئ العدالة.