إنها شركة انكربت Inkript أو أخطبوط تلزيمات المعلوماتية في مؤسسات الدولة، والتي لُزّمت عقوداً في القطاع العام بمئات ملايين الدولارات في غضون سنوات، دارت حولها شبهات فساد، إن عبر عقود بالتراضي، أو بدفاتر شروط على قياس الشركة. أما التلزيم الأكثر فداحة، فكان النظام المتكامل لإصدار رخص سوق سير المركبات الآلية واللاصقات الإلكترونية ولوحات تسجيل آمنة وبرامج مكننة مصلحة تسجيل السيارات والآليات، في هيئة إدارة السير، مع عمل الشركة في مرفق عام لسبع سنوات، بلا عقد!
بدأت انكربت العمل في النافعة عام 2014 مع طلب وزير الداخلية المحسوب في حينه على تيار المستقبل، نهاد المشنوق، جعل الرخص واللوحات واللاصقات وبرامج المكننة في النافعة مناقصة واحدة، رغم أنها تنطوي على 5 خدمات مختلفة، وعلى ألا تخضع المناقصة رغم ضخامتها لدائرة المناقصات!
لبّت وقتها رئيسة الهيئة المعينة حديثاً من قبل المشنوق، هدى سلوم، طلب وزير الوصاية. فرغم استقلالية الهيئة، كانت تبعية سلوم للمشنوق أقوى. إذ ذهبت أبعد مع أعضاء الهيئة في إعداد دفتر شروط مخالف، ودوماً لصالح إنكربت، ضاربة قوانين المحاسبة العمومية والمناقصات عرض الحائط، لتستحوذ الشركة ومن خلفها من محسوبين على تيار المستقبل، بدءاً من مالكها محمد أمين عيتاني، على المرفق العام بمناقصة قدرها 179 مليون دولار أميركي. استحواذ تجلى بتجرؤ الشركة على تعطيل نظام تشغيل المعلوماتية في النافعة منذ أسابيع، كسابقة لشركة خاصة تقفل إدارة عامة بوجه المواطنين.
توقيت إنكربت المشبوه في التعطيل، لم يكن يهدف لإطالة عمرها في النافعة وحسب، بل كذلك، لضرب نموذج الإصلاح الإداري الذي بدأت نتائجه تتبلور مع الإدارة الجديدة بالتكليف من عناصر قوى الأمن. وقد تكون إنكربت تنفست الصعداء اليوم مع مغادرة العميد علي طه، كرئيس لمصلحة تسجيل السيارات بالإنابة، لشراسته في مواجهتها لصالح المرفق العام. لكنها لن ترتاح مطولاً، فلجنة تقصي حقائق نيابية، برئاسة النائب ابراهيم منيمنة، تتحضر لنبش تاريخ إنكربت وتجاوزاتها في النافعة. كما أن العقيد خالد يوسف المعين مكان العميد طه، يأتي بخلفية معلوماتية هندسية، ويشهد له بمناقبيته.
كاد المريب أن يقول خذوني
مر تعطيل شركة انكربت للنافعة لأسابيع، من دون التوقف عند التوقيت المريب، الذي تقاطع فيه التعطيل مع طلب أكثر من 20 موظفاً من الطاقم القديم الفاسد، العودة للعمل في النافعة، وعلى رأسهم رئيس مصلحة تسجيل السيارات أيمن عبد الغفور، محتكر صكوك البيع المجانية، الذي كشفت “المدن” تفاصيل طلبه العودة لترؤس المصلحة.
المفارقة أن هدف إنكربت الظاهر من تعطيل المرفق العامّ، كان رفضها سريان القرار 13 الصادر عن مجلس الوزراء، لإعادة التوازن المالي لعقود الأشغال والخدمات العامة، عليها، بهدف تقاضي الأموال وفق تسعيرة ما قبل الانهيار. والأخطر، محاولتها تمديد مدة عملها لعامين، بحجة عدم صدور آخر أمريّ مباشرة عمل وفق دفتر الشروط.
إنكربت كانت تدرك أنها الأيام الأخيرة لها في النافعة، مع انتهاء مدة التلزيم في أيلول، وذهاب هيئة إدارة السير لتحضير مناقصة جديدة شفافة مع هيئة الشراء العام وفق الأصول، تماما كما حصل في المعاينة الميكانيكية.
أما عودة الموظفين الفاسدين، لو نجحت، فكانت لتسهّل للشركة تمديد مدة التلزيم. وهنا بيت القصيد. فعلاقة إنكربت العضوية بالموظفين، تتقاطع على مستويين اثنين:
– المستوى الأول، هو المسؤولية المباشرة لهيئة إدارة السير السابقة في المخالفات المرتكبة في دفتر الشروط مع إنكربت، والذي عاقبها عليه ديوان المحاسبة بقرار صدر عام 2022.
– أما المستوى الثاني، فتمثل بأن “الجهات السياسية” التي تدعم سلوم سواء الوزير المشنوق الذي عينها في منصبها، أو النائب السابق هادي حبيش، الذي كان يدعمها جهارة، حتى بعد ثبوت تورطها بالفساد الممنهج في النافعة، يدوران في فلك إنكربت، وفق تقاطع سياسي مصلحي. وهي الشركة المتعهدة ذات البعد الحريريّ.
أكثر من ذلك، وحسب معلومات “المدن”، فإن الاجتماعات الدورية بين هيئة إدارة السير وإنكربت، كانت تختصر دائماً بشخص هدى سلوم وأيمن عبد الغفور، حتى تلك التي كانت تتعلق برؤساء دوائر معنيين بالاجتماعات.
وبالتالي، انكربت لم تكن مجرد شركة لزمت إصدار رخص ولوحات وتشغيل برنامج معلوماتية، بل كانت للوزير يداً قابضة على النافعة، التي تحولت بدورها إلى “مغارة علي بابا” التي تبيض ذهباً، إن للموظفين الفاسدين أو لإنكربت بصفقة مشبوهة.
التلزيم المشبوه والتواطؤ الفجّ
بدأ كل شيء عام 2014، بتمرير هيئة ادارة السير دفتر شروط فصّل على مقاس شركة إنكربت، بموافقة وزير الوصاية المشنوق ومباركته وتسهيله، على حساب المال العام اللبناني.
فغياب العقد كاف لإدانة الصفقة. أما المخالفات المرتكبة في مشروع تلزيم نظام متكامل لإصدار رخص سوق سير المركبات الآلية ولاصقات الكترونية ولوحات تسجيل آمنة وبرامج مكننة مصلحة تسجيل السيارات والآليات، فأثبت التواطؤ بين الإدارة وانكربت والوزير نفسه، ولو قرئ بين السطور.
وحسب قرار ديوان المحاسبة رقم 6/ر.ق نهائي، تاريخ 19/7/2022، فقد تم “ارتكاب العديد من المخالفات سواء لنظام إدارة المناقصات العامة، أو لنظام المحاسبة العمومية”، وهو ما نجم عنه قرار قضائي اتخذ بالإجماع، بمعاقبة المديرة العامة لهيئة إدارة السير هدى سلوم وأعضاء مجلس الادارة: أسامة نصولي، جورج ديب، طارق داوود، وطلال أيوب ومفوض الحكومة لدى الهيئة رجاء منصور، بالغرامة المنصوص عليها في المادة 60 من قانون المحاسبة العمومية، بحدها الأقصى البالغة قيمته مليوناً و500 ألف ليرة، والغرامة المنصوص عنها في المادة 61 مما يعادل مخصصات كل منهم بتاريخ ارتكاب المخالفة لسنة كاملة.
فالإدارة عمدت وفق القرار إلى “اختيار معايير تصب مباشرة لصالح عارضين محددين كمعيار فرض 3 سنوات كحد أدنى، إضافة إلى تنفيذ مشروعين مماثلين لصالح مؤسسة حكومية. وهي شروط تتمثل بشكل أساس لدى العارض شركة انكربت”.
وفند الديوان نقاط عدم احترام المساواة بين العارضين، ما يتنافى مع مبادئ تلزيم الصفقات العمومية. وحتى شرط تقديم الشركة قيامها بأعمال مماثلة سابقاً، اعتبر واقعاً في غير موقعه القانونيّ، لخروج جزء لا يستهان به من مكونات المشروع عن اختصاص الشركة الحقيقي، بنسبة قدرت بـ %60.
وبما أنه كان يفترض بالتلزيم في هذه الحالة للملتزم النهائي نفسه، وليس “التلزيم من الباطن” (تلزيم ثانوي لشركات أخرى)، حاولت سلوم تبرير دمج دفاتر الشروط كافة في مناقصة واحدة وفقاً لكتاب من وزير الداخلية الموجه إلى الهيئة تحت الرقم 8ص.م تاريخ 14/8/2014.
لكن هذا لا يعفي -حسب الديوان- رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهيئة ومفوض الحكومة لديها من العقوبة. إذ أن هيئة إدارة السير والآليات والمركبات تعتبر مؤسسة عامة ذات شخصية معنوية واستقلال مالي وإداري. وبالتالي، لا يعتبر وزير الداخلية رئيساً مباشراً عليها، إنما سلطة وصاية.
انكربت.. إلى المحاسبة
بتاريخ 10 تموز الماضي توقفت انكربت عن العمل، رافضة تقاضي 60 مليار ليرة عن الأعوام 2021-2022، بحجة أن القرار 13 الذي يتعلق بمعالجة تداعيات الأزمة على عقد الأشغال والخدمات العامة، “لا ينطبق على أعمالها”، وفق قولها.
تعطلت الهيئة مع إطفاء الخوادم، فتوقف تسجيل السيارات ودفع رسوم الميكانيك ورفضت الإدارة تسليم رموز التشغيل إلا بعد انتهاء العقد، فأصبحت داتا اللبنانيين في النافعة رهينة انكربت، وأصبح المرفق كذلك رهينة عودتها للعمل، حيث تسبب تعليقها العمل بخسارة يومية للخزينة قدرت بـ23 مليار ليرة يومياً.
جاء قرار استشاري صادر عن ديوان المحاسبة منذ أيام، حمل الرقم 17/23 لينصف المرفق العام، معلناً أن عقد انكربت ينتهي بالفعل في 20 أيلول الحالي، من دون إغفال قوانين تعليق المهل، وأن إنكربت “أمعنت” في تعطيل مصالح الدولة المالية ومصالح المواطنين، ورأى بوجوب هيئة إدارة السير مطالبة إنكربت بتعويض عن الخسائر وملاحقتها جزائياً أمام النيابة العامة التمييزية.
رضخت انكربت للقرار 13 ومفاعيله وعادت لتسيير عمل النافعة وفق أسعار تراعي الأزمة. لكن أهم ما في رأي الديوان عدا عن التذكير بإطلاق مناقصة جديدة شفافة، هو الاشارة إلى المحاسبة حتى عن المبالغ المدفوعة سابقاً في التلزيم مع وجوب “التدقيق بالملف من حيث التكلفة ومدى اعتدال الأسعار”.
التموضع القوي للنافعة اليوم بوجه انكربت، تدعمه لجنة تقصي حقائق نيابية برئاسة النائب ابراهيم منيمنة، الذي وعد بدوره بوضع المواطنين بجميع معطيات التحقيق. والحال أن الوزير المشنوق وطاقم الموظفين والشركة المتعهدة، مثلوا نموذجاً لحاجة البلاد اليوم لتدقيق جنائي في كافة وزاراتها ومرافقها العامة. فالهدر يبدأ أحياناً بكتاب من وزير الوصاية، ولا ينتهي بتفاصيل دفتر الشروط وذمم الموظفين!