الوجه المظلم لمصرف لبنان… هكذا شرّع الاختلاس بالتعاميم

في ظل مرحلة يفترض فيها أن تكون انتقالية، تمّ تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، كريم سعيد، في آذار 2025، ليستلم فيها حاكمية المصرف المركزي ومعها إرثًا ثقيلاً من السياسات النقدية المشبوهة التي استحكمت بالمصرف المركزي خلال العقود الماضية. تلك السياسات، التي ازدهرت في عهد الحاكم السابق رياض سلامة واستمرّت تحت إدارة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، خلّفت اضراراً جسيمة في بنية النظام المصرفي والمالي. هو إرث شبيه بالبنيان المتصدع، داخله تراكمات من السياسات النقدية غير التقليدية والتعاميم الاستثنائية التي اعتُمدت ظاهريًا كإجراءات إنقاذية، لكنها عملياً كرّست ثقافة الإفلات من المحاسبة وهدر الحقوق واستمرار الممارسات السياسية والمالية الشاذة. دخل سعيد إلى المنصب، في وقت بات فيه مصرف لبنان مظلّة تحتمي بها الطبقة المصرفية والسياسية، سواء لتجنب تحمل الخسائر أو لتغطية حقبات من الفساد المستشري وهو ما حمّله مسؤولية مزدوجة: إعادة الانتظام الإداري داخل مصرف لبنان، وتأسيس رؤية مستقبلية لمصرف مركزي تنفذ من خلالها سياسة نقدية تتقاطع وتتكامل مع سياسة الحكومة المالية بهدف تحقيق الانتظام النقدي والمالي المعاصر لتكنولوجيا المالية حول العالم.

من واجبنا أن نوضح ما يحمله هذا الإرث من ممارسات شاذة واختلاسات وسرقة، لربما نرى في رؤية الحاكم الجديد ممارسة مختلفة عن ما سبق. ولنذكر قليلاً بسياسات المصرف المركزي، خلال الحقبة التي رافقت الفترة الأخيرة من ولاية رياض سلامة وما استتبعها من سياسات تولاها الحاكم بالإنابة وسيم منصوري الذي قدم نفسه كإداري مؤسساتي ملتزم بالدستور والقانون، في محاولة منه لرسم قطيعة ظاهرية مع عهد رياض سلامة والتنصّل عملياً من إرث السياسات التي استكملها. يأتي هذا المقال في إطار ملف متكامل يهدف إلى توثيق أنماط اختلاس المال العام وعمليات تبييض الأموال تحت غطاء مؤسسات الدولة المالية.

توصيف الواقع: هل الأزمة نظامية؟

تُعرَّف الأزمة النظامية Systemic Crisis أنها الحالة التي يشهد فيها النظام المالي في بلد ما انهياراً واسع النطاق، يتمثل في تعثر عدد كبير من المؤسسات المالية عن الوفاء بالتزاماتها، مما يؤدي إلى ارتفاع حاد في القروض المتعثرة واستنزاف معظم أو كامل رأس مال القطاع المصرفي، ويستدعي في هذه الحالة تدخلًا من المصرف المركزي بوصفه الملاذ الأخير (Lender of Last Resort) لاستعادة الثقة وضمان استمرارية عمل النظام المالي (Laeven & Valencia, 2008).

لكن، الإشكالية لا تكمن في تعريف الأزمة النظامية أو تحديد ما إذا كانت كذلك فحسب، بل في كيفية معالجتها. فالمسألة ليست مجرد توصيف نظري أو تصنيف تقني، بل العبرة تكمن في الأداء الفعلي والمعالجة العملية التي تعتمدها السلطات المعنية. فالتوصيف قد يكون خطوة أولى ضرورية، لكنه لا يغني عن اتخاذ تدابير متكاملة وفعالة تستند إلى سياسات مالية ونقدية ومؤسساتية منسقة ومدروسة. ومن هنا، فإن الاكتفاء بتوصيف الأزمة على أنها نظامية، دون إرفاق ذلك بإجراءات نوعية وعملية، يُبقيها في إطارها النظري. لذلك، سعت دول العالم، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، إلى تطوير آليات استباقية لمواجهة الأزمات النظامية، عبر تعزيز الأطر التنظيمية والتحوط، وتفعيل أدوات الرقابة والإشراف، وضمان التنسيق بين السياسات النقدية والمالية.

وعليه، نرى أن الازمة المالية في لبنان تمثل أزمة نظامية بإمتياز، لكن ما يميّزها هو أن جوهر الأزمة لا يكمن في تعثر تقليدي للمصارف بسبب مخاطر السوق أو الائتمان، بل في انكشاف المصارف المفرط للقطاع العام عبر مصرف لبنان، بما يعكس ضعف الحوكمة، وانعدام الرقابة، والتشابك العميق بين السياسة والمال.

وبالرغم من وجود إطار قانوني متكامل نافذ من خلال مجموعة من القوانين المرعية الاجراء، وان كان بحاجة الى تحديث، إلا أن المعالجة كانت بتجاهل هذه القوانين واعتماد نهج مختلف، إذ اعتمد مصرف لبنان على إصدار التعاميم كأداة رئيسية لمعالجة تداعيات الأزمة، بشكل يوازي بين مصالح أهل السياسة والمال.

إعادة هيكلة المصارف من خلال التعميم 154

شهد عام 2020 أولى خطوات معالجة انهيار القطاع المصرفي اللبناني. ففي 16 تموز2020، أعلن حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة إنشاء لجنة لإعادة هيكلة المصارف تضم ممثلين عن الحكومة والمصرف المركزي ولجنة الرقابة وجمعية المصارف، إلا أن اللجنة فشلت في تقديم أي مقترح. ومن ثم عاد وأتخذ مصرف لبنان إجراءات تنظيمية استثنائية عبر التعميم رقم 154 الصادر في 27 آب 2020، بوصفه ركيزة أولى في مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي كاستجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي ومجلس الوزراء، وتفعيلاً لما طُرح آنذاك من ضرورة إعادة رسملة القطاع المصرفي وتمكينه من استعادة الحد الأدنى من السيولة الخارجية.

ألزم التعميم 154 كل مصرف عامل في لبنان باتخاذ خطوة تنظيمية تقضي بتكوين سيولة خارجية حرّة قابلة للاستخدام الفوري بنسبة 3 في المئة من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية كما كانت قائمة بتاريخ 31 تموز 2020، على أن تُودع هذه النسبة في حساب خارجي لدى أحد المصارف المراسلة خارج لبنان، على أن تبقى هذه الأموال خارج أي تجميد أو حجز أو توظيف داخلي.

ولتعزيز الامتثال، حث التعميم الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين قاموا بتحويل أموال إلى الخارج ابتداءً من الأول من تموز 2017، أن يعيدوا إلى حساباتهم في لبنان ما نسبته 15 في المئة من تلك الأموال، تُستخدم لتكوين السيولة الخارجية المطلوبة بموجب التعميم. أمّا بالنسبة للأشخاص المعرضين سياسياً (PEPs)، فقد رُفعت النسبة إلى 30 في المئة، وذلك كشرط للاعتراف بتلك السيولة ضمن حسابات المصرف المعني. وقد هدّد مصرف لبنان المخالفين بإحالتهم إلى الهيئة المصرفية العليا؛ بالرغم من تحفظنا على دور وشرعية وجود الهيئة المصرفية العليا؛ وبتطبيق العقوبات عليها وفقاً للقوانين المرعية الاجراء، الا أننا لم نر أي من هذه الإجراءات.

ولكن بدلاً من أعتماد التعميم 154 المرجعية الأساسية التي اعتمدها مصرف لبنان في إعادة هيكلة المصارف، أصبح معياراً لتحديد أهلية المودعين للاستفادة من برامج السحوبات الاستثنائية، ولا سيما بموجب التعميمين 158 و166. فقد اشترط المصرف على أي مودع يرغب بالاستفادة من تلك التسهيلات أن يكون قد امتثل لأحكام التعميم 154، خصوصاً لناحية إعادة النسبة المفروضة من الأموال المحوّلة إلى الخارج (15 في المئة أو 30 في المئة بحسب الحالة). وبذلك أصبح التزام المودع والمصرف بتطبيق التعميم 154 شرطًا إجرائيًا للانتفاع من التعميمات اللاحقة. وقد حوّل هذا الواقع التعميم 154 من أداة لإعادة الرسملة وفق مفهومه ومضمونه عند صدوره، إلى أداة فرز وانتقائية تحدّد من يحق لهم السحب ومن يُمنع عليهم، كما جعل منه وسيلة لتأمين شرعية استمرار بعض المصارف عبر إظهار التزامها الشكلي بالتعميم 154، الذي تم تعديل مضمونه مرارًا بشكل مخالف لقانون النقد والتسليف والمعايير الدولية الناظمة لعمل المصارف.

بالفعل، بين عامي 2020 و2025، شهدت آليات تطبيق التعميم 154 تحويراً في أهدافها والغاية منها. فقد صدرت عدة تعاميم وسيطة عدّلت أحكام التعميم الأساسي 154، وصولاً إلى التعميم الوسيط رقم 716 الذي وقّعه الحاكم بالإنابة السابق وسيم منصوري بتاريخ 21 تشرين الثاني 2024. بحيث سمح هذا التعديل الأخير بتوسيع تعريف السيولة الخارجية الواجب على المصارف تكوينها، حيث أتاح للمصارف إدراج القيمة السوقية لمحفظة سندات الخزينة اللبنانية بالعملات الأجنبية (Eurobonds) المودعة لدى شركة ميدكلير ش.م.ل. أو لدى أمين حفظ في الخارج، والمصنّفة بالقيمة العادلة، سواء من خلال الدخل الشامل الآخر (FVOCI) أو من خلال الربح أو الخسارة (FVTPL)، ضمن نسبة السيولة الخارجية المطلوبة.

مخالفة المعايير الدولية

وعليه، وبصرف النظر عن مضمون التعميم 154 وغاياته والعقوبات التي لوّح بها للمصارف غير الملتزمة، فإن هذا التوجه الجديد يُعدّ تحايلاً محاسبياً صريحاً يتعارض مع المنهجية المعتمدة في المعايير الدولية. فهو تصنيف لا يتوافق مع معيار IFRS 9 أو مع أهداف إدارة السيولة الخارجية (كما أوضح صندوق النقد الدولي في دراسة منشورة A Central Bank’s Guide to International Financial Reporting Standards, 2021.). إذ إن سندات اليوروبوند المذكورة هي أصول متعثرة وغير قابلة للتسييل الفوري، ما يجعل إدراجها ضمن السيولة الخارجية مخالفاً للمعايير الدولية ولمعايير بازل الدولية التي توجب تصنيف الأصول وفقاً لمستوى سيولتها ومخاطرها. بالإضافة إلى ذلك، يصعب احتساب قيمة تلك الالتزامات وتقييم نوعية الأصول المعتمدة وما إذا كانت فعلًا تشكّل ضماناً نقدياً خارجيًا متاحاً للوفاء بالتزامات المصارف تجاه مودعيها. إن غضّ النظر عن هذه الحقائق يسمح لبعض المصارف بالاستمرار عبر اللجوء إلى عمليات غير مشروعة لتحقيق الأرباح وضمان بقائها، بدلًا من مواجهة حقيقة أوضاعها المالية وتصحيح الخلل.

سنتناول لاحقاً تفكيك الأساليب المعتمدة في ضبط السيولة النقدية، وكيف انتقلنا من تحكم تطبيقات السوق السوداء بسعر الصرف إلى ما يشبه “الغرف السوداء” داخل وزارة المالية ومصرف لبنان والمصارف وشركات الأموال مروراً بمنصة بلومبرغ التي لم تبصر النور، حيث تُدار السياسات النقدية عبر تعاميم تخدم مصالح خاصة. وسنُظهر كيف تحوّلت بعض هذه التعاميم من أدوات تنظيمية إلى وسائل ممنهجة لممارسة الشذوذ المالي المقونن، الأمر الذي يتطلب إعادة قراءة نقدية ومنهجية قانونية لِما صدر من قرارات تُخفي في ظاهرها إصلاحاً، وفي جوهرها شرعنة للهدر والفساد.

مصدرالمدن - مهدي الحسيني
المادة السابقةجابر: مستحقات الفيول متوافرة وننتظر جهوزية المصرف المركزي العراقي
المقالة القادمةتعرض أفران الهادي بالضاحية لاطلاق نار.. وأمين سر اتحاد المخابز والافران يستنكر