في ضوء التسريبات المتزايدة عن تحرير سعر صرف الليرة للودائع والقروض، لا بدّ من التوغّل في الموضوع الأساس: حقوق المودعين والدائنين وهم في حالة صراع مع المصارف التي لا تتخاذل برهة لضرب القوانين عرض الحائط كما وفي معايير الشفافية.
برز الصراع مع المصارف في تشرين الماضي بعد أن تمّ تقديم دعوى بحق “BankMed”، وأدّى كذلك منذ نحو شهرين لإشهار دعوى من قبل الأميركيين جوزيف وكارِن ضو في محكمة المقاطعة الجنوبية في نيويورك ضد مصرف لبنان ومعه ثلاثة مصارف تجارية لبنانية، بتهمة “الاستيلاء على اموالهما البالغة 18.5 مليون دولار عبر مخطط “بونزي” الذي انتهجه النظام المصرفي اللبناني. وهو ما دفع ايضاً منذ أيام بوليام بوردون لتوجيه دعوة لرفع دعاوى قضائية في فرنسا وتحديداً من مكتبه التابع لجمعية ” Sherpa” المتخصصة في مكافحة الفساد وعمليات اختلاس الاموال، واضعاً نفسه في تصرف المودعين اللبنانيين، ضحايا الارتكابات المصرفية.
ذلك يعني ان الكثير من القوانين الدولية لا تعتبر الوديعة قرضاً، وهو ما تؤكده “القضايا” الخارجية التي من المتوقع ان تزداد وسببها التخبطات في “فتاوى” القوانين اللبنانية، وخصوصاً لجهة اللغط الحاصل ما بين اعتماد القانون التجاري او المدني لتحديد ماهية الوديعة ومدى صلاحية المصارف الاستثمارية. لكن، وحتى لو كان للمصرف الحقّ، بحسب القوانين المنظّمة للمهنة، ان يستثمر الأموال المودعة لديه، الا ان ذلك الاستثمار يكون مربوطاً بآجال قريبة وبما يصون مدخرات الناس ويحميها عبر استثمارها بمشاريع مضمونة. واذا سلمنا جدلاً قانونية اعتبار الوديعة استثمارية فكيف ذلك من دون توعية الناس عن تبعات ونتائج تسليم أموالهم وادارتها من قبل مؤسسات غير مجازة وغير مؤهلة أقله على المستوى الانساني- الاخلاقي. فلو أدرك المودعون حجم المخاطر المتأتية من سياسة الاغراء بالفوائد الهستيرية، لما خاضوا هذه المراهنة ولما سلموا بالتالي أعناقهم الى مصارف تمتهن المقامرة… عملاً مصرفياً.
لكن وبمقابل هذه النظرية، يبرز رأي قانوني معاكس هو الذي يفنّده خبير التشريعات الاقتصادية عمر البيسار في هذا الحديث مع “نداء الوطن”.
ذمّة ائتمانية
تشكل الودائع قانوناً ذمّة ائتمانية موضوعة باستعمال المصرف وتكون منفصلة تماماً عن ذمته المالية، ومع ذلك يتم التسويق الى نظرية مضادة، على ماذا ترتكز؟
القانون عالم رمادي وتكاد لا تخلو أي من مواده ونظرياته من إمكانية تحولها إلى فسحة للنقاش. ولا أرمي إلى الدفاع عن المصارف اللبنانية فأنا دائم الإنتقاد لها ولسياساتها وجشعها، إلا أن المنطق القانوني يفرض نفسه حين نتكلم عن الودائع لأجَل وتصنيفها.
من وجهة نظري فإن أي شخص يودع مالاً في أي مصرف وينتظر عوائد، فهو مدرك أن ماله بات جزءاً من إستثمار ما أو دخل في محفظة لتنمية هذا المال، وهذا ما يستتبع إعمال مبدأ “الغنم بالغرم” وهو مبدأ أساسي في الصيرفة الإسلامية التشاركية عبر المضاربة والمرابحة و كذلك لدى البنوك الإستثمارية وصناديق الإستثمار، ولذلك نرى أن الدول تحاول تخفيف المخاطر عن البنوك التقليدية عبر إنشاء صناديق تعاضدية لضمان الودائع تكتتب فيها المصارف بجزء من أرباحها كنوع من التأمين والتحوط.وعليه فالودائع إلى أجَل تدخل في ذمة المصرف المالية الذي ينتقل إليه الحق بالتصرف بهذا المال كي ينمو ويدر العوائد في الظروف الطبيعية، ويُفترض أن العوائد غير ثابتة لدى المصارف الإستثمارية والإسلامية وقد تحتمل الخسارة.
كيف تنظر القوانين الدولية الى الوديعة؟
في حين أن المصارف بكل أشكالها يقع عليها موجب حماية وحفظ الودائع فتعمد إلى تعويض المخاطر بالفوائد المرتفعة، وكلما زادت مخاطر الإستثمار كلما إرتفعت الفائدة التي تتقاضاها من المقترض، حتى ولو كان المدين هو الدولة، وهذا ما رأيناه في الأعوام السابقة في لبنان إلى درجة أن الإكتتاب الأخير لسندات اليوروبوند أواخر سنة 2019 الذي عزفت البنوك التجارية عنه، كانت جمعية المصارف قد أعلنت وقتها أنها ستطلب فائدة بحدود الـ 14% فيما لو اكتتبت فيه.
تنص القوانين المصرفية حول العالم على أن الوديعة تتحول إلى قرض لدى تسليمها للمصرف، فهي ليست محفوظة في خزائن وجوارير غب الطلب ما خلا جزء يسير منها وفقاً لمتطلبات بازل وتعاميم المصرف المركزي في كل بلد، وهذا جوهر الخلاف بين عقد الوديعة المصرفية وعقد الوديعة المدنية التي يفترض ردها عيناً ومن دون أجر. ومعيار التفريق الرئيسي بين الوديعة التجارية والمدنية هي حرية تصرف المودع لديه بالمال المودع لتنميته وإعادة مثله مع ريعه. فعلى سبيل المثال ينص قانون النقد والتسليف اللبناني في المادة 168 منه: “… دفتر حساب الإدخار هو بمثابة سند دين للمودع غير قابل للإنتقال …”، وهذا المبدأ القانوني نراه يتكرر في التشريعات حول العالم. فقانون المعاملات التجارية الإماراتي ينص صراحة في المادة 373 منه: “تعتبر الوديعة النقدية ديناً وتجوز المقاصة بينها وبين الدين الذي يكون للمصرف على المودع…”. و كذلك الأمر في القانون الجزائري (قانون النقد والقرض) والقانون المصري (قانون التجارة الجديد) المادة 301: “وديعة النقود عقد يخول البنك ملكية النقود المودعة والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه، مع إلتزامه برد مثلها للمودع وفقاً لشروط العقد”. والأمثلة كثيرة سواء في القوانين العربية أو الغربية ولولا هذا النص تتعطل القدرة الإستثمارية للمصرف ويتحول إلى خزينة، وتتحول النقود إلى عبء مكلف وتنحسر الإستثمارات الضخمة وعمليات الإقراض والتسليف.
سوء الأمانة
تُتّهم المصارف راهناً بسوء الامانة وهو ما تترجمه الدعاوى القضائية المقدمة دولياً، كيف تصف تقصير المصارف، لجهة عدم توعية المودعين حيال المخاطر المتأتية عن نسب الفوائد المرتفعة؟
بسبب الوضع القانوني للوديعة الذي ذكرناه، لا يمكن إتهام المصرف بخيانة الأمانة في حال عجز عن ردها في تاريخ إستحقاقها.
لكن الأمر لا ينتهي هنا، ذلك أن رد الوديعة وعوائدها يرقى إلى موجب تحقيق الغاية وليس مجرد بذل العناية بالنسبة للبنوك التقليدية، وهنا تثار مسؤوليات مجلس الإدارة ومدى علمه بالمخاطر المتمثلة في تركز جزء كبير من إستثماراته لدى الدولة اللبنانية، التي لم تحقق يوماً وفراً في ميزانيتها السنوية ومدى إلتزام المصرف بتعليمات الملاءة والتغطية المالية وإمتحان تحمل الجهد المالي، إلا أن هذا بحث آخر يجب وضعه في سياق الإنهيار المالي للدولة برمتها لا القطاع المصرفي لوحده أو لمصرف منفرد بذاته.
في ظلّ المعمعة المحيطة بالودائع هل تُعتبر خاضعة لاحكام القانون المدني أم التجاري؟
القانون الخاص يعقل العام. وينص قانون التجارة البرية اللبناني في المادة 2 منه على انه “اذا انتفى النص في هذا القانون فتطبق على المواد التجارية احكام القانون العام”، على ألا يكون تطبيقها الا على نسبة اتفاقها مع المبادئ المختصة بالقانون التجاري. هذا وتنص الفقرة 4 من المادة 6 من القانون عينه ان اعمال الصرافة والبنوك هي اعمال تجارية وبذلك تكون تراتبية القوانين المطبقة واضحة.