الطريق التي سلكها الاقتصاد اللبناني لم توصله إلى حائطٍ مسدود، إنما وضعته على مفترق طرق. فإما يأخذ منعطف الـ 90 درجة وينجو، وإما يستمر بالسير على الخط نفسه ويسقط بعد أمتار قليلة بهوةٍ لا قعر لها. فرص النجاة بالنسبة للاقتصاد تبدو انها منقسمة مناصفة بين فشل محكم أو نجاح مبرم. أما النتيجة فستحدّدها الخيارات العامة والخاصة.
في الوقت الذي ما زالت فيه الحكومة تتخبط في جهل سياساتها وعقم خياراتها، خطا بعض القطاع الخاص خطوة متقدمة باتجاه دعم القطاعات الانتاجية. فبناء على المعطيات المستجدة مثل الـ”كابيتال كونترول” المقنع وتراجع الفوائد على الودائع واضمحلال السيولة في البنوك… وضع مصرف الأعمال FFA Private Bank نفسه وسيطاً بين المودعين الراغبين في اخراج أموالهم من القطاع المصرفي، وبين القطاعات الانتاجية المحتاجة الى سيولة للعمل والاستمرار.
تمويل الانتاج
“رأينا في الظروف ان هناك فرصة لنتحرك”، يقول رئيس مجلس ادارة FFA Private Bank جان رياشي عن المبادرة. فبناء على دراسة الميزانية والجدوى الاقتصادية للمشروع يقدم المصرف المتخصص، التمويل الملائم للمؤسسات الصناعية والزراعية، التي تحتاج الى اعادة هيكلة أو رسملة ديونها، أو التي يظهر انها تحتاج إلى المزيد من التمويل الاضافي طويل الامد لتكبير حجم اعمالها”.
دعم القطاعات المنتجة، في الاوقات العصيبة التي تنتظر لبنان، لم يعد ترفاً، بل انه شبه واجب. فافتقار التجار الى الدولار والتعديل الذي سيلحق بـ “الدولار” الجمركي، سيعيقان عمليات الاستيراد ويدفعان، في جميع الاحوال، بأسعار المستوردات الى معدلات خيالية. وهو ما سيشكل فرصة نمو وازدهار حقيقية للقطاع الانتاجي الداخلي سواء كان هدفه تلبية السوق المحلية ام التصدير.
هذه الخطوة تشكل فرصة استثمار حقيقية لكل الراغبين في الحفاظ على ودائعهم واخراجها بطريقة مغايرة لشراء العقارات. كما انها تدر ارباحاً نتيجة الاستثمار بدلاً من “دفنها” الى اجل غير مسمى في الامور الجامدة.
ككل الاستثمارات تحمل هذه الطريقة بعض المخاطر الا ان ميزتها، بحسب رياشي، هي في “اتاحة الفرصة لتنويع الاستثمارات وتوزيع المخاطر. والدليل الابرز على نجاحها هو ان عدد المستثمرين يفوق عدد المؤسسات القادرة على تلبية الشروط”.
مثال تطبيقي
المثال التنفيذي عن الخطوة تمثل في إعادة هيكلة Cedar’s Premium Food and Beverage Company التي دفعت ثمن تسكير العراق لحدوده ومنعه الاستيراد.
إعادة هيكلة CEDAR لم تقتصر على مجرد توفير تمويل مباشر من قبل مستثمرين جدد بل أتت ضمن خطة شاملة، تتضمن إعادة هيكلة الدين، وزيادة رأس المال، وإعادة توازن الاستحقاقات، كما تمويل رأس المال التشغيلي وترسيخ الحوكمة الرشيدة. وقد توزعت إعادة هيكلة التمويل البالغة حوالى 14.5 مليون دولار أميركي على النحو التالي: 9.5 ملايين دولار عبارة عن قرض ائتماني بضمانات عينية مع فترة سماح لتمكين الشركة من إعادة الهيكلة داخلياً والانطلاق على أسس متينة، مبلغ 3.2 ملايين دولار لزيادة رأس المال لإعادة موازنة الأصول والإستحقاقات، و 1.8 مليون دولار عبارة عن قرض مصرفي مرؤوس لأجل.
“نجاح هذه التجربة والحاجة الكبيرة إلى تطوير صناعات بديلة عن الاستيراد، دفع بمصرفنا إلى الاهتمام والعمل على ملفات جديدة تتعلق بصناعة الادوية والكرتون”، يقول المدير العام في FFA إياد بستاني.
بورصة صناعية
“ما حصل لاول مرة في لبنان مع “سيدر” لم يكن تفصيلاً بسيطاً، سواء لجهة حجم التمويل، او السرعة التي تم بها اصدار السندات والاكتتاب بها”، يقول عراب الفكرة الصناعي بول أبي نصر. إلا ان عقبات توسع هذه السياسة الى بقية القطاعات لا تتعلق في توفّر المستثمرين، بل بقدرة المؤسسات والشركات الموجودة على التعامل وتلبية شروط هذا النوع من التمويل الذي ينقسم الى شقين: الاول، عبر اصدار السندات، والثاني، عبر السندات القابلة للتحويل.
أبي نصر يعتبر ان “الطريقة الثانية هي المفضلة أكثر عند المستثمرين بخاصة اذا كانت الشركات الطالبة للتمويل معروفة وذات منتجات مشهورة ورائجة. فهذا سيحقق للمستثمر ربحاً مضاعفاً، مرة من خلال السندات وأخرى من خلال المشاركة في رأسمال الشركة في المستقبل. إلا ان هذا يتطلب تمتع الشركات بمحاسبة دقيقة وحوكمة رشيدة وهو ما لا يتوفر بكثرة في لبنان. إذ ان اغلبية الشركات اما عائلية صغيرة واما تمسك دفترين في المحاسبة”. من هنا يرى أبي نصر “ضرورة تنظيف هذه الشركات من خلال تشريع قوانين التسوية على المالية والضمان واتاحة الفرصة لها للاستفادة من طرق التمويل الحديثة. كما ان قوانين التسوية لن تنحصر منافعها بالشركات بل انها ستؤمن مدخولاً للدولة بشكل آني، وتسمح لها في المستقبل بزيادة مدخولها من هذه الشركات التي من المفروض ان تتحول الى مساهمة”.
بهذه الطريقة تنشأ في لبنان بورصة صناعية تهتم في شراء الاسهم وبيعها من خلال التداول في الادوات المالية الحديثة التي تشبه تلك الموجودة في الدول المتطورة. خصوصاً من بعد ان اثبتت تركيبة القطاع المالي التقليدي في لبنان فشلها. ففي الوقت الذي كانت الاسواق المالية العالمية والبورصات تزدهر في الخارج كانت ميزانيات المصارف التجارية تنتفخ بالودائع التي وظفت في غير مكانها وتبخرت. وبالتالي فان المستقبل هو للاسواق المالية ولتجارة الاسهم والسندات بدلاً من الفوائد الريعية. وهذا ما سيعود بالمنفعة على المودعين وقطاع الانتاج والاقتصاد بشكل عام.