الوصاية الدوّلية تصل إلى الشقّ المالي..

أربعة وعشرون ساعة قضاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في لبنان أتت بمفاعيل توازي أشهر من مفاعيل الحراك السياسي الداخلي. هذا أقلّ ما يُمكن إستنتاجه من زيارة الرئيس الفرنسي الذي حمل في يديه «العصى والجزرة».

ثمار هذه الـ 24 ساعة بدأت بالظهور من خلال الإستشارات النيابية غير الملزمة التي قام بها الرئيس المكلّف مصطفى أديب والتي لاقت أصداء إيجابية من القوى السياسية الأساسية في البلد. فالتصريحات التي قامت بها هذه القوى على إثر لقائها الرئيس المكلّف في عين التينة، تُشير إلى أن أيًا منها لم يُطالب بحصص في الحكومة بل مُطالبة بحكومة مُتجانسة ومُصغّرة. هذه الصورة الجميلة لا تعكس بالضرورة الواقع الحقيقي على الأرض بحكم أن المعلومات تُشير إلى أن الفرنسيين بدأوا إتصالاتهم مع هذه القوى للحصول على إقتراحات بأسماء وزراء في هذه الحكومة على أن يقوم الرئيس المكلّف بالتشاور مع رئيس الجمهورية عملية التشكيل. وبحسب هذه المعلومات، هناك توجّه فرنسي على أن تكون هذه الحكومة مُصغّرة ويطغى عليها الإختصاص أكثر منها العمل في الشأن العام.

وإذا كان الرئيس الفرنسي قد قالها بوضوح «إمّا التعاون أو العقوبـات»، فـإن المسار ليس بالسهل خصوصًا أن القوى السياسية تُناور ولو في هامش ضيّق. هذه المناورة ستكون على شكل تجاذبات في الأسماء لكن أيضًا في الحقائب، وإذا كان الضغط الفرنسي سيحدّ من هذه المناورة إلا أن المتوقّع أن يكون هناك مقاومة ولو بحدّها الأدنى من قـبل هـذه القوى.

أحدّ السياسيين البارزين وفي دردشة خاصة مع الديار، قال للأسف ما تُعطيه القوى السياسية للرئيس أديب تحت الضغطّ الفرنسي، كان يُمكن إعطاؤه للرئيس سعد الحريري بُعيد إستقالته في تشرين الماضي ولكنّا وفّرنا الكثير من الوقت الضائع والمكّلف. إلا أن هذا السياسي يستطردّ بالقول، المشكلة كانت أكثر عند الرئيس الحريري وبالتحديد علاقته مع المملكة العربية السعودية. ويُضيف العلاقة مع السعودية سيئة وأثبتها مرّة جديدة الرئيس الحريري من خلال ترشيحه لمصطفى أديب وتجاهل الرغبة السعودية في وصول نواف سلام.

وفي معرض سؤال الديار عن أسباب تسارع الأمور والتحول الملفت في مواقف السياسيين الذين بدأوا يعتمدون خطاب قريب من خطاب الثورة إن من ناحية الدولة المدنية أو من ناحية حكومة الإختصاصيين… يقول مصدر مُطلع، أن وراء المبادرة الفرنسية عدّة إحتمالات لا نعرف أي منها هو الصحيح نظرًا إلى ضعف المعطيات على الأرض. فالمبادرة الفرنسية وإن كانت في الظاهر تحظى بدعم أوروبي وأميركي، إلا أن تصريح السفيرة الأميركية بقولها أن المقترح الفرنسي يخص الفرنسيين وحدهم وهو ما يُفسّر الصرامة السياسية التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية تجاه لبنان وخصوصًا حزب الله. من هذا المنطلق، يرى المصدر أن هناك إحتمالين:

أولا ـ تقاسم أدوار بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا على الملف اللبناني، وبالتالي يُحاول الفرنسيون الحصول على أكثر ما يستطيعون من حزب الله في الوقت الذي تُحافظ فيه الولايات المتحدة الأميركية على مواقفها المتصلّبة تجاه الحزب.

ثانيًا ـ أن تكون المبادرة الفرنسية في إطار الفراغ في التعاطي السياسي الأميركي خصوصًا أن الإنتخابات الرئاسية الأميركية ستجعل الإدارة الأميركية تُركزّ أكثر على الداخل الأميركي وبالتالي إستعادة فرنسا لدورها التاريخي في لبنان.

ويُضيف المصدر، في قراءة جيوسياسية، كل دول المنطقة بدأت عملية التطبيع مع إسرائيل باستثناء بعض الدول الممانعة والتي تنحصر بسوريا، العراق، ولبنان. من هذا المنطلق، تنصّ الإستراتيجية الأميركية على تفكيك أوصل الترابط بين هذه الدول بهدف عزلها الواحدة تلو الأخرى وجرّها إلى مفاوضات مع الكيان الإسرائيلي من باب الضغط الإقتصادي.

} السيناريو المتوقّع يُترجم في أذار 2021 }

في ظل فرضية تشكيل الحكومة في وقت قصير كما هو مُتوقّع، وفي ظل تشابك المصالح الدولية والإقليمية، قد يكون لبنان على موعد مع نهضة فعلية في أذار 2021. هذا الأمر يأتي من منطلق، أن الورقة الفرنسية المطروحة كمشروع لبرنامج الحكومة الجديدة تحوي على أربعة محاور: جائحة كورونا، تداعيات إنفجار 4 آب، الإصلاحات، والإنتخابات. وبالتالي فإن تنفيذ هذه الورقة يُشكّل باب خلاص للبنان من أزمته الإقتصادية والمالية والإجتماعية والنقدية.

في محور جائحة كورونا والوضع الإنساني، تنصّ الورقة على أن تقوم الحكومة بإعداد خطّة لمكافحة الجائحة، وتعزيز الحماية الإجتماعية لصالح الشعب. وفي محور إنفجار المرفأ، تقوم الحكومة بتسهيل عملية المساعدة الإنسانية المُقدمة من الأسرة الدولية وذلك بشكل شفاف وفعّال. على هذا الصعيد، يأتي تقرير البنك الدولي الذي أعدّه بالتعاون مع الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ليُشكّل محور خطة إعادة الإعمار وبالتحديد في مرفأ بيروت مع الإصرار على تحقيق «مُحايد ومُستقلّ» يسمح بتبيان الحقيقة الكاملة.

على صعيد محور الإصلاحات، تطلب الورقة من الحكومة اللبنانية أن تتبادل بشكل مُنتظم وجهات النظر مع المُجتمع المدني في ما يتعلّق بالإصلاحات، وإستئناف المفاوضات الفورية مع صندوق النقد الدولي مع الموافقة السريعة على التدابير الوقائية التي طلبها الصندوق وعلى رأسها قانون «الكابيتل كنترول» والتدقيق في حسابات مصرف لبنان.

أيضًا وعلى صعيد الإصلاحات، تقوم الحكومة في مهلة شهر بتعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء وإطلاق إستدراجات العروض ورفع تدريجي للتعرفة الكهربائية. كما تطلب الورقة من الحكومة عقد إجتماعات لمجموعة المتابعة المحلية لمؤتمر سيدر، إنجاز التعيينات القضائية، إقرار إستقلالية القضاء (من قبل المجلس النيابي)، وإصلاح القطاع العام.

ومن بين الإصلاحات التي تُطالب بها الورقة، مكافحة الفساد والتهريب وذلك من خلال تعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والعمل على دخول معاهدة منظّمة التعاون والتنمية الإقتصادية حول مكافحة الفساد والتطبيق الفوري للإصلاحات الجمركية، وقانون المناقصات العمومية، وتفعيل المجلس الأعلى للخصخصة. على صعيد المالية العام، إقرار قطوعات الحساب، وإعداد ميزانية عقلانية لسنة 2021.

وفي محور الإنتخابات، تطلب الورقة تنظيم إنتخابات نيابية في مهلة سنة كحدّ أقصى مع إجراء تعديلات على القانون الإنتخابي الحالي.

هذه الإصلاحات إن تمّت، ستؤدّي حكمًا إلى إستقامة الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي. ويظهر من المعطيات أن التوجّهات هي نحو الصرامة في التنفيذ وهذا ما نلحظه من التشدّد الذي بدأ المصرف المركزي يستخدمه مع المصارف اللبنانية مُطالبًا إياها برفع رأسمالها تحت طائلة الخروج من السوق بالإضافة إلى مطالبة المساهمين والمديرين في المصارف بإرجاع 30% من الأموال التي أخرجوها خارج لبنان. هذا الأمر يواجه حفيظة القيمين على المصارف التجارية حيث تُشير التسريبات إلى إمتعاض قوي من قبل المصارف التي ترفض أن تكون ضحية الفساد الحكومي. ويُتوقّع أن تشتدّ المواجهة بين المصرف المركزي والمصارف التجارية في الأسابيع والأشهر المقبلة من خلال زيادة الهجوم على شخص حاكم مصرف لبنان.

من كل ما تقدّم نرى أن شهر أذار سيشهدّ عودة القطاع المصرفي، عامود الإقتصاد، لكن بهيكلية مُختلفة وضع أسسها التعميمين وسيط رقم 576 وأساسي رقم 154.

} الوصاية المالية الدوّلية }

المطالب الدولية بالتدقيق المالي مُلفتة للنظر! هذا المجتمع الذي ترك لبنان يغوص في فساده خلال عقود، يصحو فجأة ويُطالب بتدقيق مالي إن في مصرف لبنان أو من خلال قطوعات الحساب. هذه الصورة تطرح فرضية الوصاية الدولية على القطاع المالي في لبنان بشقيّه العام والمصرفي.

في الشكل، يُمكن الترحيب بهذه الخطوات التي طالما شكّلت مطالب للبنانيين، لكن في المضمون والتوقيت هناك سيناريو مُريب ينصّ على وضع المجتمع الدولي على النظام المالي اللبناني إن من ناحية مصرف لبنان والقطاع المصرفي أو من ناحية مالية الدوّلة. وهذا يعني أنه لن يكون للبنان إمكانية وحرّية التصرّف في المستقبل إلا وفقًا للموافقة الخارجية. أي بمعنى أخر، لا يُمكن للبنان إستيراد محروقات أو قمح أكثر من حاجته أو لا يُمكن للبنان توظيف أشخاص في القطاع العام إلا بعد موافقة ولو ضمنية من قبل المجتمع الدولي.

وتوقيت هذا التوجّه مُلفت بقدر ما مضمونه مُلفت، إذ يأتي في وقت يواجه لبنان أصعب مراحله المالية والإقتصادية وبالتالي لا خيار للّبنانيين إلا القبول به تحت طائلة المجاعة! وبالتالي كنا نتمنّى أن نصل إلى هذا المستوى من الإنضباط مع إحتفاظنا بسيادتنا المالية!

الواقع الإقتصادي المذري الذي وصلنا إليه اليوم، يدفعنا إلى القول أن الوصاية المالية الدولية تبقى أرحمّ من وصاية الفساد…

 

مصدرجريدة الديار
المادة السابقةالأقساط على حالها رغم تراجع المصاريف التشغيلية
المقالة القادمةتنفيذ الإصلاحات المطلوبة يواجه عقبة التمويل..