لم يذق الموظف في الادارة العامة طعم سلسلة الرتب والرواتب حتى جاء الانهيار المالي والاقتصادي لينغص عليه فرحته القصيرة ويُعيده الى مرحلة عاش فيها الفقر والحرمان. وها هو اليوم ينتفض على ادارته ويتخذ قرارات كبيرة غير آبه لكل ما يحصل من حوله.
غياب التحفيزات المالية التي كان يسعى اليها الموظف عبر عمله في الادارة العامة، اضافة الى انخفاض قيمة راتبه مقابل منصة سعر صرف الدولار في السوق السوداء دفع عددا كبيرا من الموظفين لاسيما المتعاقدين مع الدولة عبر عقود عمل، الى ترك وظائفهم بعد أن تمكنوا من تأمين فرص عمل غالبيتها في الخارج كالدول العربية وافريقيا، وتشهد هذه البلدان زحفا لليد العاملة اللبنانية اليها نظرا للرواتب التي تدفعها الشركات هناك مقابل خدمات اللبناني حيث وصلت الى حدود 800$ بعد أن كان يتقاضى ضعفي المبلغ وأكثر، فالشركة في الخارج استفادت من تدهور سعر الصرف في لبنان لتخفيض الراتب بالدولار كذلك اللبناني الذي وجد نفسه مرغما على قبول العرض لمساعدة عائلته.
بعض الموظفين قرر الهجرة، لاسيما اؤلئك الذين لديهم جنسية ثانية “كندية اميركية اوروبية..”. النسبة الكبيرة من هؤلاء هم من موظفي الفئات الثانية أو من مصرفيين واصحاب مهن طبية وقضاة واساتذة جامعيين.
لم يعد التكتم سيد الموقف في ادارات الدولة، هناك من يعصي القرارات الادارية الصادرة عن الوزير أو المدير العام ولا يأبه لكل تفاصيلها لاسيما تلك المتعلقة بدوام العمل، حتى أن وزيراً في الحكومة تعمد مراقبة الموظفين وضبط دوامهم ليتبين له ان الكثير منهم غائب وأن المداورة بينهم باتت عرفاً لا يمكن مواجهته، وبعض الوزراء سلم للأمر الواقع بهدف تسيير امور المرفق العام بعد ان خسرت الدولة اليد العاملة لديها ولم يعد هناك موظفين من ذوي الخبرة يمكن الاستفادة منهم، وتحول العمل الاداري الى مساحة لتقطيع الوقت بانتظار عودة دورة الحياة الاقتصادية الى ربوع الدولة، اذ أن معظم العقود والمعاملات متوقفة باستثناء الصحية منها أو تلك المتصلة بالمالية العامة.
لا ايرادات يمكن ان تتحدث عنها الدولة من الادارات العامة، هذا ما يمكن استخلاصه من تقارير لعدد من المنظمات الدولية العاملة على الارض، حيث تشير الارقام الى أن نسبة الانتاجية داخل الدوائر الرسمية شبه معدومة، مرد ذلك الى توقف الكثير من المعاملات أو استيفاء الخدمات، وفرضت الدولة على الشركات التي تعاقدت معها لقاء خدمات محددة تمديد العقود ورفض اجراء مناقصات جديدة لأن اي عقد سيكلف الدولة أضعافا، فكان الاجدر ابقاء القديم على قدمه الى حين عودة الامور الى نصابها المالي.
وفي الحديث عن الخسائر ايضا فقدت الادارة العامة خبرات مهمة كلفت الدولة أموالا عبر ارسالها ضمن بعثات الى الخارج للاستفادة من الخبرات الاجنبية، وبعض هذه الفئات قرر الاستقالة والعمل مع برامج خاصة تابعة للامم المتحدة وصندوق النقد ومنظمات أُخرى غير حكومية تتعاون مع الادارات العامة ضمن بروتوكولات خاصة. اعداد الموظفين وان كان ضئيلا بالنسبة لهذه الفئة الا أنه الاكثر انتاجية ويُعد مواكبا للتطور المعلوماتي وينقل المؤسسة العامة الى أماكن جديدة.
في الخلاصة وضع الادارات العامة في البلاد يحتضر، خسائر بشرية ومادية ونزيف كبير أعاد الدولة سنوات الى الوراء، والاخطر من كل ذلك هو مفاعيل الانتكاسة التي قد تظهر بعد القطوع الذي يمر به لبنان.