فرضت الحرب على العديد من أصحاب المصالح نقل أماكن عملهم، من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، إلى مناطق مُصنّفة “آمنة”، في محاولة للتكيّف مع الظروف الطارئة والصمود مهنياً، خصوصاً أنّ أمد الحرب لا يزال مجهولاً، والخسائر المادية تتفاقم يوماً تلو الآخر.
هذه المصالح التي تُعدّ مصدر الرزق الأساسي لأصحابها، تتنوّع بين صغيرة وبرؤوس أموال متواضعة، وأخرى كبيرة، عمل مؤسّسوها على مدى الأعوام السابقة لبنائها بالقرب من مكان إقامتهم، أملاً باستقرار طويل.
طبيب أسنان
لم يخسر طبيب الأسنان مهدي أيوب عيادته في الضاحية الجنوبية بالغارات، إلّا أنّه اضطرّ لنقل عمله إلى منطقة الأشرفية في بيروت، بعدما تلقّى اتصالات عديدة من مرضاه يطالبونه بمتابعة العلاج.
في الأسبوعيَن الأوّلَين للحرب، يروي أيوب أنّ الهمّ الأساسي كان تأمين مأمن للعائلة، قبل أن يجد ضرورة في البحث عن بدائل لعمله أيضاً، ضمن خيارات ثلاثة: “العمل بدوام جزئي في عيادة أحد زملائنا في منطقة آمنة، أو استئجار عيادة مجهّزة، أو تجهيز عيادة جديدة بأكملها، وهذا خيار مكلف جداً”، بحسب أيوب، مؤكداً أنّ “أحداً لا يستطيع دفع مبلغ كبير في هذه الفترة لأنّنا لا نعرف مدى الحرب”.
ويضيف لـ”النهار”: “اتّجهتُ للخيار الثاني واستأجرتُ عيادة مجهّزة بدوام كامل ضمن مركز طبي في الأشرفية، واستطعتُ نقل المعدات الصغيرة التي تُحمَل باليد من الضاحية، أمّا التجهيزات الكبيرة ومعدّات التصوير وكرسيّ العلاج فلا يُمكننا إخراجها”.
وعلى عكس ما حصل مع عددٍ من النازحين، لم يواجه أيوب رفضاً في استئجار عيادة بالأشرفية، إلّا أنّ بعض زملائه الأطباء، في مناطق أخرى، سُئلوا عمّا إذا كان مرضاهم تابعين لـ”حزب الله”، ما “قد يعرّض المكان للخطر”.
لا يرى أيوب في هذه المرحلة مجالاً للربح في العمل، فيؤكد أنّ “علاج الحالات الطارئة سيكون مجانياً، خصوصاً لمن ليس قادراً على الدفع، وذلك بخلاف العلاجات التجميلية الأخرى”.
في ظلّ الاستهدافات المتنقّلة بين المناطق، ثمّة تفاوت في قدرة المرضى على الوصول إلى مراكز الأطباء الموقّتة، ويُعدّ بلوغ العيادات الواقعة على مشارف بيروت أو الحازمية أسهل من تلك في قلب العاصمة، خصوصاً مع زحمة السير غير المسبوقة التي تشهدها بيروت جرّاء كثافة النازحين.
إلى ذلك، ثمّة أطباء دُمّرت عياداتهم وخصوصاً في الجنوب والبقاع، ويواجهون اليوم أزمة في إعادة تجهيز عيادات جديدة لهم، إن كان خلال فترة الحرب أو بعد انتهائها. وفي سابقة خلال حرب 2006، قدّمت نقابة الأطباء مساعدة لإعادة تجهيز العيادات المتضرّرة، إلّا أنّ عدد الأطباء المتضّررين حينها لم يكن كبيراً جداً نسبة إلى اليوم، وهذه من أبرز المشكلات التي ستطفو على السطح قريباً.
الحربُ وإن طالت ستنتهي، وهذا ما يدفع أيوب لتأكيد “العودة فوراً إلى الضاحية عند وقف إطلاق النار”، مضيفاً: “أظنّ أنّ غالبية زملائي سيتّخذون القرار ذاته، فيما الفئة القليلة التي ستبقي عياداتها الموقّتة فهي مِمّن خسر مكان عمله أو مسكنه”.
صاحب مطعم
أكثر من عامٍ مرّ على افتتاح الشيف علي علوية مطعمه على أوتوستراد هادي نصر الله، وقد حقَّق شهرة واسعة على السوشيل ميديا وحظيَ بإقبالٍ كثيفٍ من أهالي المنطقة والجوار، قبل أن يضطرّ لإغلاقه قسرياً بعد اشتداد الغارت على الضاحية.
لم يرضخ علوية للحرب، فبعد نزوحه سكنياً إلى بيصور، نزح مهنياً أيضاً إلى سليم سلام، وافتتح مطعماً صغيراً بالقرب من جامعة الـLIU، وأعاد تجهيزه “من الصفر بكلفة 5 آلاف دولار”، في قرار يصفه بـ”المخاطرة في ظلّ ضبابية الأفق… وقد استدنتُ مبلغاً مالياً للمشروع، لتفادي البقاء من دون عمل”.
لا يُعدّ انتقال علوية إلى بيروت “موقّتاً” كغيره من أصحاب المصالح، بل يؤكد “إكمال مشروعه حتى بعد وقف النار، ومن دون شكّ سأستأنف العمل في مطعمي في الضاحية، إذا لم يُدمّر، عند الرجوع إلى منازلنا فوراً”.
ويضيف: “نقلتُ جزءاً من تجهيزات المطعم في الضاحية، وقد خسرتُ مستودعَين يضمّ أحدهما معدّات مطبخ ومونة غذائية ولحوماً فاسدة في البرادات جرّاء انقطاع الكهرباء”، مؤكداً أنّ “العنصر المادي يعتبر ثانوياً لنا، ولو خُيّرنا بين أن تُدمَّر مصالحنا وألّا تُعوَّض خسائرنا، وأن تنتصر المقاومة في نهاية الحرب، لاخترنا انتصارنا بالطبع”.
ليس إقبال الزبائن على المطعم كثيفاً بعد، إلّا أنّه في تحسّن تدريجيّ، خصوصاً لتزامن انطلاقه مع الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها النازحون، إضافة إلى أنّ “نوعية الأكل التي نقدّمها جديدة ومختلفة عمّا اشتهرت خلاله”، بحسب علوية. ويضيف: “وضع النازحين في بيروت ليس جيّداً بأغلبه، وليس باستطاعة الجميع شراء الوجبات يومياً من المطاعم. افتتحت المحلّ لجني مردود مقبول خلال الحرب وليس “لجمع المال”، وبالتالي فإنّ أسعار الوجبات رخيصة وأراعي ظروف الأهالي”.
محلّ لبيع الألبسة النسائية
على الرغم من الخسائر الاقتصادية الكبيرة لأصحاب المصالح، إلّا أنّ الحرب عزّزت التكاتف الإنساني بينهم، وهذا ما دفع سمر (اسم مستعار) لتوزيع البضاعة الصيفية في محلّها الكائن في بئر العبد على مراكز الإيواء في بيروت والمناطق، بعدما نزحت إلى منطقة في قضاء عاليه مع عائلتها.
لم يُثنها النزوح القسري عن الانقطاع عن عملها كلياً، فكان لا بدّ من “ضرورة إكمال مصلحتنا من موقع جديد، خصوصاً بعد وصول بضاعة جديدة من الصين خلال الحرب”، بحسب ما تؤكد لـ”النهار”.
وتضيف: “في إجراء موقّت، استأجرتُ محلاً صغيراً (تحت الضغط) في إحدى مناطق عاليه، بعدما واجهتُ بدايةً رفضاً من تجار السوق”، خصوصاً أنّ المحلّ مخصّص للسيدات المحجّبات، لافتةً إلى أنّ “البضاعة المعروضة اليوم غالبيتها جديدة، وأن بعضاً منها استطعتُ إخراجه من أحد المستودعات داخل منزلي في الضاحية”.
شكّل انتقال محلّ مخصّص للسيدات المحجبات من الضاحية إلى عاليه فرصةً لغالبية النازحات مِمّن خرجنَ من بيوتهنَّ على عَجل. تصف سمر المبيع اليوم بـ”المقبول”، فـ”النازحات يشترينَ حاجتهنَّ، خاصة ممِّن نزحنَ من دون ثياب كافية أو بثياب صيفية قبل حلول الخريف، ولدينا خدمة الديليفري إلى المناطق الآمنة، خاصة في الشمال ومناطق صيدا”.
كما ترى في هذه الخطوة “دعماً لأهلنا النازحين”، مؤكدةً أنّ البيع بـ”أسعار تنافسية وتُناسب الجميع، ونُقدّم الملبس مجاناً لمن ليس بمقدورها الدفع، كما نبيع البضاعة بـ(الرأسمال) للمبادرات الإنسانية التي تساعد النازحين في مراكز الإيواء”.
الانتقال إلى عاليه “مرحليّ وموقّت” ليس إلّا، إذ لم تدفع سمر تكاليف باهظة على محلّها الجديد، وسط “ثقة مطلقة بالعودة إلى الضاحية قريباً”، وتقول: “حتى إن دُمِّر المحل في بئر العبد، فسأبحث عن محلّ جديد في الضاحية وأكمل عملي”.