اجتمعت الحرب والظروف المناخية وإهمال الدولة على الزيتون هذا الموسم، فحلّت النكبة بالمنتج الزراعي الأول في لبنان. 170 ألف مزارع يعملون في زراعة تغطي 6.5% من مساحة الوطن وجدوا أنفسهم هذه السنة أمام ظروف قاهرة من دون بوادر تعويض. من جهة، فرضت الاعتداءات الإسرائيلية جنوباً نفسها على 30% من المساحات المزروعة، بعدما أخّرت القطاف في عدد كبير من البساتين، ولا سيّما في قرى المواجهة الحدودية. من جهة ثانية، تدنّى الإنتاج بسبب التقلبات المناخية الحادّة، ما أدّى إلى انخفاض إنتاج الزيت من 120 ليتراً لكل ألف متر مربع إلى أقل من 20 ليتراً في بعض المناطق
انتهى موسم الزيتون لبنانياً هذه السنة إلى مأساة، إذ انخفض إنتاج دونم الأرض المزروعة زيتوناً من 6 تنكات إلى أقل من تنكة واحدة في عدد كبير من المناطق ما رفع ثمنها الى حدود 150 دولاراً للمنتجة حديثاً، و120 دولاراً للقديمة. أما ظاهرة انخفاض الإنتاج فليست لبنانية صرفة، بل تعود إلى التقلبات الحرارية المتطرفة الناتجة عن ظاهرة التغيّر المناخي العالمي، إضافة إلى عدم تمكّن عدد كبير من مزارعي الزيتون في الجنوب من قطاف الموسم الذي بقي «على أمه»، والقصف الصهيوني الأراضي اللبنانية بالقنابل الفوسفورية الحارقة ما أدّى إلى نشوب حوالي 386 حريقًا قضت على 50 ألف شجرة زيتون، بعدما تسبّبت باشتعال أكثر من 1000 دونم من الأراضي، وفق إحصاءات وزارة الزراعة.والزيتون هو من المنتجات النادرة في لبنان التي تغلب فيها كفة الميزان التجاري لمصلحة التصدير على حساب الاستيراد. فحتى شهر آب الماضي، صدّر لبنان، بحسب الجمارك اللبنانية، ما قيمته 19 مليون دولار من حبوب الزيتون الخام والمنتجات الغذائية المتعلقة به من زيت ومخلّلات، وبلغ إجمالي ما تمّ تصديره خلال عام 2023 من منتجات الزيتون 5145 طناً، 71% منها زيت. ومقابل هذا الإنتاج الكبير، والاكتفاء الذاتي تقريباً، بقيت حركة الاستيراد شغّالة، ودخل إلى لبنان 920 طناً من منتجات الزيتون خلال عام 2023، بقيمة 750 ألف دولار، شكّلت مخلّلات الزيتون الجزء الأكبر منها (906 أطنان)، فيما بلغ وزن الزيت المستورد 2 طن فقط (0.2%)، ما يشير إلى عدم وجود صناعات غذائية فاعلة مرتبطة بالزيتون في لبنان.
السلطة السياسية غائبة تماماً عن دعم الزراعة الأولى لبنانياً، ولولا ضغط تجمّع الهيئات الممثّلة لقطاع الزيتون لما صدر عن وزارة الزراعة القرار 667 (عام 2016) الذي أخضع استيراد زيت الزيتون للإجازة المسبقة، ومنع إغراق السوق بالزيت المستورد الأرخص من الزيت المحلّي. وعلى صعيد متصل، فإن الأراضي المزروعة بالزيتون غير محمية بأيّ قانون، فـ«عدو الزيتون الأول»، بحسب عضو تجمّع الهيئات الممثّلة لقطاع الزيتون جورج عيناتي هو «غابات الباطون التي حلّت مكان بساتين الزيتون في منطقة صحراء الشويفات، وأبي سمرا في طرابلس». كما أشار عيناتي إلى كارثة أخرى تمثّلت بـ«بحيرات مقالع التراب الأحمر في منطقة المقالع في شكا والتي ساهمت في تغيير طبيعة الأرض، وانتشار مرض عين الطاووس، ما أدّى إلى القضاء على أكثر من مليون ونصف مليون شجرة زيتون». ويضاف أيضاً إلى ذلك، «الرعي الجائر، ولا سيّما في منطقة الكورة، حيث لا توجد أي قطعة أرض مصنّفة على أنّها مراعٍ، ورغم ذلك يستمر التعدّي على بساتين الزيتون من أصحاب قطعان الماشية رغم وجود 61 قراراً بلدياً تمنع الرعي».
الزراعة الأولى
تشير كلّ الأرقام إلى أنّ زراعة الزيتون تحتلّ المركز الأول من دون منافس. فعدد المزارعين العاملين فيها بلغ 170 ألفاً، والمساحات المزروعة بأشجار الزيتون ضخمة مقارنةً بباقي الزراعات، إذ تغطي بساتينها 667 مليون متر مربع، فيما لا تتجاوز المساحة المزروعة بالقمح، على نوعيه القاسي والطري، 516 مليون متر مربع. وتشكّل الأراضي المزروعة بالزيتون 6.5% من مساحة لبنان، و23% من المساحة الزراعية المستغلّة بشكل موسمي ودائم والتي تزيد بقليل على مليارين ونصف مليار متر مربع، و46% من إجمالي المساحة الزراعية الدائمة، بحسب إحصاءات وزارة الزراعة لعام 2021، مع «نمو سنوي للمساحة المزروعة بالزيتون بنسبة 2.5%»، وفقاً لعضو تجمّع الهيئات الممثّلة لقطاع الزيتون جورج عيناتي.
ولكن رغم هذا المشهد الواعد، ما زالت زراعة الزيتون، بشكل عام، بدائية وتعتمد على المعلومات المتوارثة ولم تتحوّل إلى زراعة حديثة بسبب غياب رعاية الدولة. فالأجهزة الرسمية قادرة على تحديد حاجات السوق، حيث هناك فائض في الزيت ونقص حادّ في الصناعات الغذائية المرتبطة بالزيتون كتحويل الثمار إلى ما يُعرف بـ«زيتون المائدة»، رغم أنّ «المنتج الأخير يعود بأرباح أكبر على المزارع من الزيت»، بحسب الخبير في زراعة الزيتون المهندس حسين حطيط. لكنّ الصناعات الغذائية المرتبطة بالزيتون لم تتطور بشكل كافٍ في كلّ المناطق، فـ«في منطقة الجنوب ما زالت متواضعةً مقارنةً بالشمال حيث تطوّرت لدرجة تصدير المزارعين منتجات الزيتون»، قال حطيط، الذي أشار إلى «إمكانية تصريف الزيتون في السوق المحلي من دون حاجة إلى التصدير كونه ملائماً للذوق اللبناني».
تطوير الزيتون
ولكن، رغم الإهمال الرسمي المزمن، تشهد زراعة الزيتون تطوراً مستمراً، سواء على مستوى المساحات المزروعة أو زيادة احترافية المزارع التي ترعاها الجمعيات والتعاونيات الزراعية بغياب الدولة. زيارة واحدة إلى المشاتل أكّدت التوجه نحو زيادة عدد أشجار الزيتون المزروعة، إذ «تنفد شتول الزيتون البلدي، المعروف بالصوري، في نهاية الموسم»، بحسب حطيط. كما أنّ زراعة الزيتون بدأت بالامتداد نحو مناطق لم تدخلها من قبل، مثل البقاع حيث المساحات هائلة وإمكانات الاستفادة أكبر. الناس، من غير المزارعين، مهتمون بزراعة الزيتون اعتقاداً منهم بأنّه لا يحتاج إلى عناية كبيرة. ولكن، بحسب حطيط، «يجب أن تتحوّل زراعة الزيتون إلى زراعة ذكية عبر تبنّي الممارسات الجيدة مثل مكننة القطاف الذي يخفّف 50% من الكلفة، والتقليم الصحيح، والتسميد المناسب، وإلا ستكون الكلفة عالية جداً ولن يتمكّن المزارع من المنافسة».
من جهة أخرى حذّر حطيط من «دخول أصناف جديدة من شجر الزيتون من دون دراسة»، مشدّداً على «ضرورة المحافظة على الأصناف المحلية بغية المحافظة على هوية الزيت اللبناني. فزراعة الزيتون الإسباني أو الإيطالي تعني إنتاج زيت من النوعية نفسها، والمزارع اللبناني لن يتمكّن من منافسة نظيره الأوروبي في الميدان نفسه، إنّما يمكنه التفوّق في مضماره البلدي الجيد من ناحية مقاومة الحر والبرد، والذي ينتج زيتاً بكمية عالية، كما أنّ تحويله إلى زيتون مائدة مناسب للذوق اللبناني».
«المعاومة» والمناخ قلّصا موسم زيتون 2023
في السنة الماضية أنتجت مساحة ألف متر مربع (دونم) من الزيتون 6 «تنكات» زيت (التنكة تحتوي 20 ليتراً من الزيت)، أما هذه السنة فلم تنتج المساحة نفسها في بعض المناطق تنكةً واحدةً بسبب تناقص كمية الثمار التي تحملها كل شجرة زيتون. هذه الظاهرة تُعرف باسم «المعاومة»، بحسب الخبير في زراعة الزيتون المهندس حسين حطيط، وهي «دورة تتأثّر بها كلّ الأشجار التي تنتج ثماراً تحتوي على زيت لا سكر». ولكنّ «العوامل المناخية وإهمال الأشجار ضاعفا من تأثير المعاومة»، يضيف حطيط، فـ«العوامل المناخية من تقلبات الحرارة السريعة والمتطرفة، وهطول الأمطار بشدّة في وقت قصير، أدّت إلى ضرب الموسم». ومن جهة أخرى، أشار حطيط إلى «وجود مواسم زيتون جيّدة في بعض المناطق، وكان يمكن أن تنسحب على بقية البساتين لو وجدت الممارسات الزراعية المحترفة، مثل السقاية والتقليم وغيرها التي تؤدي إلى تخفيف أثر المعاومة». إلا أنّ «تأثير المعاومة لن يستمر في العام المقبل»، يطمئن حطيط. فـ«كل 4 سنوات هناك موسم زيتون كبير، ثم من بعدها ينخفض ويعود إلى المعاومة».
لبنان في سوق الزيت العالمي
لبنان لا يزال لاعباً صغيراً على مستوى سوق الزيتون وزيته عالمياً، إذ يساهم بأقل من 1% من الإنتاج العالمي على الرغم من المساحات الهائلة المزروعة بشجر الزيتون نسبةً إلى مساحته. على المستوى العربي، تتصدّر تونس المنطقة العربية في إنتاج وتصدير زيت الزيتون، وتحتل المرتبة الثالثة عالمياً بعد إسبانيا وإيطاليا، بحسب المجلس الدولي للزيتون (منظمة دولية تضم 44 دولة تستحوذ على 98% من الإنتاج العالمي من زيت الزيتون).
زيت الزيتون اللبناني المُصدَّر أغلبه يخرج بطريقة فردية، «بالشنطة، إلى العائلات اللبنانية في الاغتراب». أما الكميات التي تخرج عبر الجمارك فتذهب بنسبة 20% إلى الولايات المتحدة، تليها دولة الكويت بنسبة 19.5%، ومن ثمّ كندا والإمارات العربية المتحدة بنسبة 10% لكلّ منهما. وفي مجال استهلاك الفرد السنوي لزيت الزيتون، يحتل لبنان المرتبة الثالثة عربياً باستهلاك 2.9 ليتر سنوياً، والسابعة عالمياً، فيما تحتل سوريا المركز الأول عربياً بـ4.6 ليترات سنوياً، والرابع عالمياً.