انهيار تامّ في الصناعة اللبنانية: أي دور نبحث عنه في سلاسل القيمة العالمية؟

على مدى العقود الثلاثة الماضية، انخفضت حصّة الصناعة من القيمة المضافة في الناتج المحلي الإجمالي من 12% في 1995 إلى نحو 1% في 2022. خسارة هائلة كهذه، لا تعني فقط أن الأمر كان متوقعاً في بلد قرّر أن يعتمد في مداخيله على الريع، بل تشير إلى أن إهدار الفرص التي خلقتها الأزمة سيؤدي إلى نتائج أسوأ وسط نقص الموارد المالية والمواد الأولية والتكنولوجيا

انكمش الناتج المحلي الإجمالي من 55 مليار دولار قبل الأزمة إلى نحو 21 مليار دولار في السنة الماضية. ورغم أن هذه الأرقام هي عبارة عن تقديرات مبنية على أسعار صرف متعدّدة، إلا أنها تعكس بشكل عام، انهياراً غير مسبوق من دون أن توضح مصدره. لكن يمكن الاستدلال على المصدر بمؤشرات، مثل القيمة المضافة للقطاعات المحلية في الناتج المحلي الإجمالي. هي أيضاً انهارت، بينما صار الريع الجيوسياسي، كما يسمّيه علي القادري، يمثّل الحصّة الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي على حساب انكماش هائل في القيمة المتولّدة من الإنتاج المحلي. فالصناعة التي كانت تخلق قيمة مضافة تصل إلى 8% من الناتج في السنوات الأخيرة التي سبقت الانهيار، أصبحت تخلق ما يوازي 1%. لحظة الانهيار كان لها مفاعيل أشدّ شراسة من تراكم الاعتماد المفرط على الريع على مدى العقود الماضية. وهذا التراكم حصل بفعل السياسات المالية والنقدية التي حفّزت الاستهلاك المستورد ورفعت اصطناعياً القدرات الشرائية للمقيمين من خلال تثبيت قيمتها تجاه الدولار بأعلى مما كانت فعلاً. وبهذا المسار ارتفعت أكلاف الإنتاج وصار الاستيراد سهلاً، وعقدت اتفاقيات تجارة خارجية ضدّ مصلحة لبنان سواء مع الاتحاد الأوروبي أو اتفاقية التيسير مع الدول العربية التي قضت على فرص منافسة الإنتاج الصناعي والزراعي المدعوم في الخارج، وهذا ما أسهم في هروب رؤوس الأموال الصناعية من لبنان إلى الخارج والبحث عن بدائل في قطاعات أخرى وبلدان أخرى.

قبل الانهيار، كان أمام أصحاب المصانع خيارات محدودة: الإكمال في القطاع الصناعي اللبناني وتحمّل كلفة الإنتاج المرتفعة، وبالتالي الموافقة على هوامش ربح أقل لتكوين قدرة على المنافسة في السوقين المحلية والخارجية، أو رفع أسعار المنتجات الذي يخفض قدراتهم التنافسية. في النتيجة ما بقي من الصناعة المحلية ليس كثيراً. القيمة المضافة، أو القيمة المتولدة داخلياً من القطاع الصناعي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي انخفضت إلى النصف بين 1995 و2004، ثم استقرّت لنحو 16 سنة على معدل يتراوح بين 7% و8%، إلى أن أصيبت بالضربة القاضية في 2019 وانخفضت فوراً في 2020 إلى 3% ثم في السنة التالية نحو 1%، أي أنها خلال سنتين تدنّت بأكثر من الثلثين.

صحيح أن حصّة القيم المضافة الصناعية في الناتج المحلي الإجمالي، في مطلع التسعينيات، لم تكن كبيرة، إلا أن الانخفاض الذي حدث منذ ذلك الوقت هو أشبه بانهيار مهول في القطاع. لكن بشكل عام، إن ما تُنتجه الصناعة اللبنانية لا يمتاز بقيمة مضافة مرتفعة، بمعنى أن معظم الإنتاج الصناعي في لبنان لا يمرّ بمراحل كبيرة من سلاسل الإنتاج، بل بشكل عام تكون المحطّة اللبنانية من سلاسل الإنتاج جزئية وهي لا تخلق قيمة كبيرة داخل الاقتصاد اللبناني. كما أن هذه المراحل من الإنتاج لا تتميّز بتعقيد كبير، حتى أن الصناعات التي تتميّز بنسبة تعقيد كبيرة تُنتج بكميات صغيرة، تسمح بخلق قيمة تسهم في رفع حجم الإنتاج بالشكل الكافي لتنمية الاقتصاد. وحالياً، يتوزّع إنتاج قطاع الصناعة بين الاستهلاك المحلّي بنسبة 83%، وبين التصدير بنسبة 17%، وفق أرقام وردت في تقرير أعدّه المركز اللبناني للدراسات بعنوان «الأزمة الاقتصادية في لبنان بحسب القطاع: التحدّيات والفُرَص في قطاع الصناعة». الصادرات الرئيسية في عام 2021 تمثّلت في الذهب والمجوهرات (18.27%)، والحديد (8.2%)، والماكينات والقطع الميكانيكية (4.62%) والماكينات الكهربائية والكهربائيات (3.85%).

تطوير سلاسل القيمة، هي أحد أهم طرق تنمية القطاع الصناعي، لأنها تتيح له الانخراط في سلاسل التوريد العالمية. هذه السلاسل هي النطاق الكامل للأنشطة المطلوبة لإنتاج أي سلعة أو خدمة من الفكرة حتى التطبيق، مروراً بالمراحل الوسيطة للإنتاج وتسليمه للمستهلك النهائي، وصولاً إلى التخلص من المنتج بعد الاستخدام. الهدف الأساسي من تنمية سلاسل القيمة هو توليد أكبر قيمة بأقل كلفة من أجل خلق ميزة تنافسية لشركة ما أو حتى لاقتصاد ما. الفكرة الأساسية تقوم على تحديد ما هي القطاعات التي تُشكّل أكبر احتمالات النمو لتطوير سلاسل القيمة فيها. بمعنى تحديد القطاعات التي تملك المقومات الأفضل للتميّز، سواء كان ذلك بسبب الخبرات المتراكمة في تلك القطاعات أو البنى التحتية الموجودة التي تُشكّل رافعة لقطاعات معينة، أو الموارد الطبيعية التي يمتلكها البلد وتدخل في عملية إنتاج قطاعات معينة.

هناك دراسات وتقارير صادرة عن وزارة الاقتصاد في لبنان ومنظمات دولية، مثل منظمة العمل الدولي، يُحدد فيها عدد من القطاعات التي تمثّل احتمالات كبيرة للتنمية. إذ يذكر تقرير لمنظمة العمل الدولي، بعنوان «توليف تأثير الأزمة على سوق العمل اللبنانية والأعمال المحتملة وفرص العمل والتدريب»، بعض هذه القطاعات مثل:

– التصنيع والبناء: إنتاج الزجاج للآلات الميكانيكية / الكهربائية…
– المعدات الصيدلانية والطبية: صناعة الأدوية ومستحضرات التجميل الطبيعية والصناعات الكيماوية…
– الطاقة المتجددة والخضراء: الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الألواح الشمسية، البطاريات…
– الصناعات الإبداعية والثقافية: صناعة الطباعة…
– المنسوجات والأثاث: الأثاث وصناعة الأخشاب…

لكن ليس واضحاً ما الذي يميّز هذه القطاعات عن غيرها في الصناعة اللبنانية. بعضها يعتمد على الموارد المائية التي يسجّل فيها لبنان عجزاً عن تلبية الحاجات الخدمية والزراعية، وهناك صناعات أخرى تعتمد على الطاقة، وغيرها. لذا، فإن السؤال الأساسي الذي يعبّر عن مشكلة الصناعة هو الآتي: ما هي الميزة التي تجعل لأي من الصناعات اللبنانية أفضلية تنافسية؟ أصلاً هذه الميزة هي الهدف من سلاسل القيمة، أي أن الميزة المفترضة يجب أن تكون سبباً في خفض كلفة الإنتاج. حالياً، هناك ميزة واحدة محتملة للاقتصاد اللبناني، وهي استخراج الغاز من البحر، بما يؤمّن عوائد مالية كبيرة أو طاقة منخفضة الكلفة.

استراتيجياً، يبدو واضحاً أن الجهد الرسمي يجب أن يركّز على توجيه القطاع الصناعي نحو السلاسل العالمية، وأن ينسجم ذلك مع مصالح لبنان والقطاع الصناعي في علاقاته التجارية في الخارج ومستوى انخراطه في النظام التجاري العالمي، كمصدّر لا كمستهلك فقط. لكن وفق أي أهداف؟ الإجابة متوافرة لدى الباحث غاري غريفي الذي ميّز بين نوعين من سلاسل القيمة:

– الأوّل هو السلاسل التي يلعب فيها المشتري دور الحوكمة الحاسم لها، أي أنه هو من يسيطر عليها. والمشتري هنا هي الشركات الرائدة أو المسيطرة في السلاسل، وهي تلعب دوراً محورياً في تنسيق وتنظيم أنشطة مختلف الجهات الفاعلة داخل السلسلة. غالباً ما يكون لدى هذه الشركات علامة تجارية قوية وشبكات توزيع واسعة وموارد مالية كبيرة، ما يسمح لهم بوضع المعايير وإملاء مواصفات المنتج والتحكم في شروط التجارة، ففي نهاية الأمر هذه الشركات هي التي تتحكّم بهذه الدورة. والسلاسل التي يقودها المشتري هي سمة من سمات الصناعات التي تحتاج إلى كثافة في العمالة (وبالتالي فهي وثيقة الصلة بالبلدان النامية) مثل الأحذية والملابس والأثاث وألعاب الأطفال. ويسهل الانخراط في هذا النوع من السلاسل، لأنه لا يحتاج إلى تقنيات عالية. لكن الواقع أن هذه القطاعات تحتاج إلى كثافة عمل، ما يجعلها غير مناسبة للبنان. فهو لا يمكنه، في وضعه الحالي، أن يعتمد على صناعات تحتاج إلى كثافة عمل، بسبب ارتفاع معدّل الأجور نسبة للدول المنافسة في هذا القطاع مثل الصين والهند، وهو ما يسهم في رفع كلفة الإنتاج وانخفاض التنافسية، فضلاً عن أن غالبية العمال في لبنان هم أجانب، بينما القوى العاملة اللبنانية التي لم تهاجر، لم تظهر استعداداً واضحاً لكسر مكانتها الاجتماعية.

 

– الثاني، هو عالم يلعب فيه المنتجون الرئيسيون في السلسلة، الذين يتحكمون عموماً في التقنيات الحيوية، دور تنسيق الروابط، وهي بشكل عام سلاسل تحركها وتتحكم فيها الشركات المسيطرة على هذه السلاسل. هذه الشركات هي المنتجة للتكنولوجيا والتصاميم الأساسية. ولأن هذه الشركات تتحكم بالمفاتيح الأساسية للإنتاج، فهي من يستطيع فرض الظروف على بقية المنخرطين في السلسلة. هنا يتحمل المنتجون مسؤولية المساعدة في تطوير كفاءة مورديهم وعملائهم. ويشير غريفي إلى أن السلاسل التي يحركها المنتجون من المرجح أن تتميز بالاستثمار الأجنبي المباشر أكثر من السلاسل التي يقودها المشترون. إذ إن إدخال توريد التقنيات والتكنولوجيا للدول الأخرى يحتاج إلى الاستثمار المباشر في البلدان التي تريد الانخراط في السلاسل المذكورة. لا يمكن الإغفال عن العامل السياسي في هذا الأمر أيضاً، وهو يتعلّق بقرار الشركات الأجنبية بشأن الاستثمار في اقتصادات معينة. ففي الحالة اللبنانية، من الطبيعي طرح السؤال، عن ماهية الدوافع عند الشركات الغربية للاستثمار في صناعات تُعد جزءاً من السلاسل التي تعتمد على التقنيات العالية؟ ومن ناحية أخرى، هل يمكن إيجاد بدائل من الشركات الغربية لهذا الأمر؟ فعلى سبيل المثال، هل يمكن إيجاد دوافع لشركات صينية – «هواوي» مثلاً، وغيرها من شركات التقنيات العالية، للاستثمار في لبنان ونقل التكنولوجيا الصناعية إلى هذا البلد؟ قد يكون هذا الأمر خاضعاً للنقاش، إلا أنه يجب أن يكون مطروحاً.

عملياً بعد نقل التكنولوجيا إلى الاقتصاد المحلّي، يمكن الحديث عن توطين هذه الصناعات، وتعلّم أساسيات هذه التكنولوجيات، وإنشاء مراكز أبحاث تسهم في تطويرها والبناء عليها بهدف الصعود إلى مراحل أعلى في سلاسل التوريد هذه.

مصدرجريدة الأخبار - ماهر سلامة
المادة السابقةفوضى من أجل طمس الجريمة
المقالة القادمةتضخّم أسعار الفنادق والمطاعم: أصحاب الرساميل يتغوّلون