في خضم جهود ترميم الاقتصاد السوري المشلول نتيجة تراكمات الحرب والحظر، يبرز اهتمام متزايد من السلطات النقدية بتأسيس بنوك جديدة، بهدف تعزيز التمويل وتحفيز الاستثمار، ما يعكس توجهاً لرسم معالم التعافي عبر تطوير القطاع المصرفي وتعزيز مشاركته في التنمية المنشودة.
يخطط مصرف سوريا المركزي لمنح تراخيص لتأسيس أو فتح فروع لبنوك جديدة، بعد أن أبدت مؤسسات مصرفية عربية وأجنبية اهتمامها بالدخول إلى السوق للمشاركة في النهوض بالاقتصاد المدمر جراء سنوات الحرب والعقوبات الأميركية والأوروبية.
وإشارةً إلى الأخبار المتداولة بخصوص تأسيس بنوك خاصة، وتوضيحاً لما يلزم بخصوص الموضوع، أكد المركزي في بيان نشره على حسابه في منصة فيسبوك الاثنين أنّه “لم يتم إصدار أي ترخيص لأي مصرف جديد في سورية.”
وقال في البيان إنّ “عدة مصارف عربية وأجنبية عبّرت عن اهتمامها بدخول السوق السورية لتستفيد من الفرص الاستثمارية الهامة المرتبطة بإعادة الإعمار والمشاريع الاستثمارية الجديدة.”
وأضاف “إذ يرحب” المركزي “بأيّ طلب لتأسيس مصرف خاص، فإنّه يقوم بالدراسات اللازمة لمتطلبات ترخيص مصارف جديدة وفق أحكام القانون لعام 2001 وتعديلاته والمعايير العالمية وحاجات الاقتصاد لتسهم في الإعمار وتنمية وتطوير القطاع المصرفي.”
ويؤكّد المركزي أنّ ترخيص أي بنك يخضع لإجراءات، وإشهار لقرارات الترخيص والتسجيل في سجل المصارف لديه.
وتعمل السلطات الجديدة، بعيد رفع العقوبات الغربية، على دفع عجلة التعافي الاقتصادي تمهيدا لبدء مرحلة الإعمار، الذي تقدّر الأمم المتحدة كلفته بأكثر من 400 مليار دولار.
ولدى سوريا التي عانى اقتصادها منذ عام 2011 بسبب الحرب حاليا 21 بنكا تتوزع بين 6 بنوك حكومية و15 مصرفاً خاصاً، بحسب البيانات الرسمية.
ويعكف المركزي على التأكد من أن البنوك العاملة بالسوق تتوافق في أنظمتها وتشغيلها مع المعايير العالمية وملائمةً لقوانين الحوكمة، كما يسعى لتأهيلها لتتمكن من المساهمة في إعادة إعمار.
كما يعمل على حصر كامل الأموال المجمدة في الخارج، بينما يعطي الأولوية لإصلاح النظام المصرفي ليتماشى مع المعايير الدولية.
وتعهد حاكم المركزي عبدالقادر الحصرية، على هامش اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي للتنمية في الجزائر خلال مايو الماضي بتقديم الدعم للشركاء الاستراتيجيين ليستعيدوا تشغيل مصارفهم في سوريا.
وقال في مقابلة مع بلومبيرغ الشرق حينها إن “هناك مناقشات مع بنوك عربية وأجنبية أبدت اهتماماً لدخول السوق السورية وكذلك المشاركة في عمليات إعادة الإعمار،” منوهاً بأن دخول بنوك جديدة سينعكس إيجاباً على البنوك المحلية وعلى بيئة الأعمال في البلاد.
وكبلت العقوبات الغربية على البلد والممتدة منذ عام 1979 الاقتصاد وأنهكت قطاعات الإنتاج، كما منعت الوصول إلى التكنولوجيا ومعداتها. ولكن شطبها عقب الإطاحة بنظام بشار الأسد أواخر 2024 شكل انفراجة، ومنها القطاع المالي.
ويُعد النظام المالي أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد السوري المنهك، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة نتيجة تراكمات عقود من السياسات الاقتصادية، فضلاً عن آثار الحرب.
وقبل الأزمة، كان القطاع المصرفي، يتميّز بكونه مُغلقًا ومركزيًا إلى حد كبير، حيث هيمنت البنوك الحكومية على المشهد، كالمصرف التجاري السوري والمصرف العقاري.
وكان دور البنوك الخاصة محدودًا للغاية، إلى أن بدأ الانفتاح التدريجي قبل عقدين عبر السماح بإنشاء بنوك خاصة وشركات تمويل صغيرة.
ومع اندلاع النزاع، دخل القطاع في حالة من الانكماش والجمود، حيث فقدت الليرة جزءًا كبيرًا من قيمتها، وفرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية قاسية على دمشق، شملت القطاع المالي.
وانعزلت البنوك إلى حد كبير عن العالم خلال الحرب بعد أن أدى قمع الرئيس السابق بشار الأسد للاحتجاجات المناهضة للحكومة عام 2011 إلى فرض الدول الغربية عقوبات على دمشق بما شمل المركزي.
وأطاحت جماعات من المعارضة يقودها إسلاميون بالأسد في هجوم خاطف أواخر 2024، وبدأت دمشق منذ ذلك الحين إعادة بناء علاقاتها الدولية، توجت باجتماع في مايو بين الرئيس المؤقت أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض.
وأعلن ترامب حينها عن تخفيف العقوبات عن دمشق خلال زيارته إلى السعودية، وقال إنها استجابة لطلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وبعدها بأيام قرر الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات الاقتصادية عن دمشق، متعهداً بالمساهمة في جهود إعادة الأعمار في المستقبل بما يتماشى مع التطورات.
وقال الحصرية في تصريحات سابقة إن المركزي والنظام المصرفي السوري بدآ في “الاندماج في الاقتصاد العالمي عبر العودة إلى نظام (سويفت)، واستثمار الاحتياطيات، وتحديث الأنظمة الإلكترونية.”
وعادت سوريا رسمياً إلى نظام السويفت العالمي قبل ثلاثة أشهر، ما مكّن البلاد من تنفيذ عمليات التحويلات البنكية التي تُعتبر أساسية لتشغيل الأسواق المالية.
وتقول الأمم المتحدة إن سوريا تحتاج إلى المعاملات مع المؤسسات المالية الغربية لضخ مبالغ ضخمة من أجل إعادة الإعمار وإنعاش اقتصاد دمرته الحرب، مع معاناة تسعة من كل 10 أشخاص في الدولة من الفقر.
وترأس حصرية في مايو اجتماعا رفيع المستوى عبر الإنترنت جمع البنوك السورية وبنوكت أميركية ومسؤولين أميركيين، ومن بينهم المبعوث إلى سوريا توماس باراك.
واستهدف الاجتماع تسريع وتيرة إعادة ربط النظام المصرفي السوري بالنظام المالي العالمي، ووجه الحصرية دعوة رسمية للبنوك الأميركية لإعادة علاقات المراسلة المصرفية.
وقال حصرية في مقابلة مع رويترز حينها: “لدينا هدفان واضحان: أن تنشئ البنوك الأميركية مكاتب تمثلها في سوريا واستئناف المعاملات بين البنوك السورية والأميركية. وأعتقد أن الهدف الثاني يمكن أن يحدث في غضون أسابيع.”
ومن بين البنوك التي دعيت إلى الاجتماع جي.بي مورغان ومورغان ستانلي وسيتي بنك، لكن لم يتضح بعد من شاركوا بالفعل.
وفي ظل الظروف الصعبة، أُجبر المركزي أثناء حكم الأسد على اتخاذ تدابير صارمة للسيطرة على سعر الصرف، مثل فرض قيود على تداول العملات الأجنبية، وتشديد الرقابة على التحويلات المالية، ومحاولة تنظيم السوق السوداء.
ومع ذلك، أدت هذه السياسات غالبًا إلى نتائج عكسية، إذ توسعت السوق الموازية وأصبحت المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية لكثير من الأفراد والشركات، ما أضعف فعالية السياسات الرسمية.
ويعاني النظام المصرفي أيضًا من ضعف الثقة، سواء من المواطنين أو المستثمرين. فالكثير من هؤلاء يفضلون الاحتفاظ بأموالهم نقدًا أو في الخارج، نظرًا للمخاوف من التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وصعوبة الوصول إلى الحسابات المصرفية.
كما أن بعض البنوك تواجه صعوبات كبيرة في استرجاع القروض الممنوحة، نتيجة الانكماش الاقتصادي وغياب الضمانات الفعلية، مما فاقم أزمة السيولة وأضعف قدرتها على أداء وظائفها التقليدية في تمويل الاقتصاد.
ورغم كل التحديات تبرز محاولات لإعادة بناء الثقة في النظام المالي عبر تحديث القوانين وتوسيع نطاق خدمات الدفع الإلكتروني وتسهيل الإجراءات البنكية وتشجيع الشمول المالي، خاصة في الأرياف والمناطق المتضررة من الحرب.
وفي العام الذي سبق اندلاع الأزمة، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للبلاد نحو 62 مليار دولار، لكنه انكمش بأكثر من النصف، مع خسائر تقدر بنحو 800 مليار دولار بسبب الحرب.



