فجأة ومن دون أي مقدمات ظهر الحاكم السابق للبنك المركزي رياض سلامة في قصر العدل، بعد أشهر طويلة من الملاحقة القانونية وعدم العثور عليه، لتبليغه بضرورة الحضور إلى التحقيق بقضايا فساد وتبديد مال عام وتبييض أموال وإثراء غير مشروع واستغلال وظيفي… وتطول لائحة الاتهامات الموجهة إلى سلامة من القضاء اللبناني تتقدمه المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، ومن القضاء الخارجي لا سيما في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ..
دخل سلامة قصر عدل بيروت من دون محاميه، واثقاً بالمغادرة والعودة إلى بيته، لكنّ حسابات حقله لم تتطابق مع بيادر السلطة، التي أمّنت له ولنفسها الحماية منذ بدأت روائح الفساد والهدر والصفقات المشبوهة، تزكم أنوف اللبنانيين والمودعين والمتعاملين مع لبنان في أنحاء العالم، ليتفاجأ بعد نحو ثلاث ساعات من التحقيق أمام المدعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار بصدور مذكرة توقيف إحترازي بحقه لمدة أربعة أيام، وينقل إلى ما يُعرف بنظارة الضباط الأربعة في الأشرفيه، الذين تمّ توقيفهم من قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل أن تظهر براءتهم.
فما الذي تغير لتوقف السلطات اللبنانية حاكماً للبنك المركزي لأكثر من اثنتين وثلاثين سنة؟ وهل سقطت مظلة الحماية الداخلية التي حالت دون محاكمته في الداخل والخارج؟
بداية لم يقبض اللبنانيون هذا التوقيف على محمل الجد، وقد ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بآرائهم الساخرة، التي اعتبرت أن التوقيف لا يعدو كونه مسرحية ستنتهي قريباً، وجاءت لسحب ملاحقته من يد القضاء الخارجي إلى القضاء اللبناني، قبل أن يكشف سلامة المستور السياسي وشركاء الفساد أو رؤوس الفساد، التي غطاها بثمنٍ باهظ على مدى سنوات حاكميته للمركزي.
وفي حين سارع الرئيس نجيب ميقاتي إلى غسل يديه من توقيف سلامة مؤكداً أنه لن يتدخل بعمل القضاء، أعلنت القاضية عون استعدادها لتولي التحقيق مع سلامة من حيث انتهت. وأمس أوضح القاضي الحجار أن ملف الموقوف احترازياً الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة سيسلك مجراه القانوني، وسيتم تحويله الى قاضي التحقيق.
ومع مجموعة التساؤلات الطويلة حول المتغيرات التي أوقعت بسلامة تكشف معلومات خاصة بموقع “ليبانون فايلز” أن ضغوطاً خارجية مورست على القضاء اللبناني لإصدار مذكرة توقيف بحقه، وأن قاضيين فرنسيين بارزين أحدهما يدعى “سيرج تونار” زارا منذ شهر تقريباً المدعي العام التمييزي القاضي الحجار في مكتبه في بيروت، وتونار يتابع ملف سلامة في فرنسا، وكلنا يذكر التحقيق مع شقيق سلامة في باريس في قضية شركة “أوبتيموم” منذ نحو شهر.
وتشير المعلومات الخاصة إلى أن اللقاء مع الحجار حمل إحراجاً كبيراً له والقضاء اللبناني، إذ سأل القاضيان الفرنسيان “كيف لا تعرفون مكان سلامة وبحقه مذكرات توقيف لبنانية وخارجية وبلاغ بحث وتحر، وهو يتنقل بكل حرية؟” فكان استدعاؤه إلى التحقيق الذي تلاه صدور مذكرة التوقيف الاحترازي.
وتربط المعلومات بين توقيفه ومخاطر إدراج لبنان على اللائحة الرمادية في التعامل المالي الدولي وكل تداعيات هكذا إدراج، مشيرة إلى أن الاقتصادي النقدي يسير من دون أي رقابة، فالمصارف تفتح حسابات لمودعين بالفريش دولار، تبلغ أحياناً مئة ألف دولار من دون التحرّي عن مصدر هذه الاموال، أكان تجارة المخدرات أو تجارة السلاح أو تبييض أموال.. فيبدو لبنان مزراباً لتبييض العملة خلافاً للقانون الدولي، وقد أُبلغ الحاكم بالإنابة وسيم منصوري لدى زيارته واشنطن أن من غير المسموح أن يكون في منازل اللبنانيين نحو سبعة مليارات دولار كاش لا أحد يعرف مصادرها.
وبانتظار انقضاء فترة التوقيف الاحترازي، تبقى العين على ما قد يحدث في الشارع، فإن أُطلق سراحه سنكون أمام تظاهرات غاضبة، وإن أُبقي موقوفاً لفترة طويلة سيبدأ سلامة بكشف كل ما يملك من معلومات تطال سياسيين كباراً، انطلاقاً من رفضه أن يكون كبش محرقة، فهل سيسمحون بكشفه المستور المالي، لمعرفة أسباب الانهيار والمزاريب التي أودت بالودائع إلى غير رجعة؟ أم تبدأ لفلفة القضية بعد استعادتها من الخارج؟