منذ افتتاحها رسمياً في العام 2010، شكّلت أسواق بيروت نقطة محورية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والترفيهية للمدينة، وصارت نقطة التقاء المواطنين الذين يعيشون حنيناً إلى أسواق «البلد» القديمة أو يحلمون بعاصمة جامعة تتخطى خطوط التماس. بسرعة تحولت «أسواق بيروت» إلى معلم رئيسي من معالم العاصمة وشهدت أياماً ذهبية. لكن الفرحة لم تدم طويلاً وحين انفجرت بيروت كان القلب أكثر من تشظى، الأضرار في الأسواق فاقت قدرتها على الصمود فأغلقت معظم متاجرها وكادت أن تصبح مهجورة.
الضربات المتتالية التي تلقتها أسواق بيروت منذ العام 2019 كانت كفيلة بأن تزعزع أكثر الكيانات التجارية صلابة، الثورة التي كانت تجري أحداثها على أبوابها، جائحة كورونا التي جمدت كل نشاط إنساني وبعدها انفجار المرفأ الذي شكل الضربة القاضية ونسف كل البنى التحتية في الأسواق واضطرها الى إقفال النسبة الأكبر من محالها. إقفال شعر بثقله من تعودوا ارتياد هذا المرفق وافتقدوا بعده مساحة جميلة كانت تعطي لقلب العاصمة رهجته. منذ فترة أعلن عن إعادة إطلاق اسواق بيروت وعن تأجير معظم مساحاتها لكن مرة جديدة أتت الأحداث لتؤخر هذا السعي. «نداء الوطن» كان لها جولة في الأسواق للتعرف الى واقعها اليوم والمستقبل الواعد الذي تخطط له.
حركة خفيفة في الأسواق بعد الظهر، الممرات الداخلية شبه خالية تتوالى فيها الواجهات الفارغة والأبواب المقفلة لكن مع اقتراب المساء تتغير الصورة: أطفال، أهل، مراهقون ومتنزهون يتوافدون الى ساحات الأسواق المختلفة وأضواء تشع في كل زاوية تلبس المكان حلة احتفالية. الزينة تتوزع في الساحات المختلفة وإن لم تعد الى ألقها الذي كان لها في سنوات العز. واضح أن الناس من كافة مناطقهم تواقون الى هذه المساحة الآمنة التي تعد بنشاطات ترفيهية عدة خلال موسم الأعياد.
حماسة العودة
كل من التقينا بهم ممن أعادوا فتح متاجرهم أو يستعدون لإعادة الافتتاح تجمع بينهم حماسة واضحة وشغف العودة الى الأسواق. لا أحد منهم يبدو خائفاً أو متردداً رغم حالة عدم التوازن الذي يعيشها البلد. عمر البرجاوي مدير العلامة التجارية لماركة Tumi منهمك بوضع اللمسات الأخيرة على المتجر الذي تم افتتاحه بوقت قياسي قبل الأعياد. أقفل المتجر مع الأحداث ويعود مع ولادة الأسواق وبرأيه إعادة إحياء وسط البلد واجب على الجميع لما يحمله من رمزية جامعة. نسبة التفاؤل عنده عالية جداً وتستعد الشركة التي يمثلها لافتتاح عدة محلات رفيعة المستوى أيضاً مثل لوبوتان وهيريرا لأن اسواق بيروت تبقى الوجهة الأولى للمتسوقين.
من جهتها تروي نورا عواد صاحبة متجر Project n7 للألبسة النسائية قصتها مع الأسواق، هي الشابة التي اغتربت لسنوات اختارت الأسواق عند عودتها لتفتتح المتجر الحلم فيها. لكن تألق سنوات من النجاح بدأ يخبو مع بدايات الأزمة ليبلغ أدنى درك له مع انفجار بيروت. بدأ المحل كما الأسواق يخسر ناسه حتى الإقفال التام. لكن نورا تكبشت بحلمها وهي اليوم تستعد لافتتاح محل أكبر رغم كونها خسرت أموالاً في استثمارها هذا وتبدأ من الصفر من جديد. تؤمن أن الناس ستكون لهم ردة فعل عكسية وسيعودون الى الأسواق التي افتقدوها بأعداد كبيرة. موقنة هي بعودة السياح والعرب والرواد الى الأسواق، والزبائن الذين كانوا في 90% منهم من السعوديين قبل العام 2019 سيعودون متى تعود بيروت.
بركة العنتبلي المتجددة لا تزال صامدة، هي تاريخ من الحلويات والذكريات. المغلي والارز بالحليب وقطايف القشطة بقيت تجتذب الزبائن حتى في عز الأزمات. لم يقفل العنتبلي أبوابه في السوق يوماً وبقي بحلوه رمزاً لزمن حلو لم يتبق منه إلا الظلال. في تكملة لاجواء الحلو والأطايب افتتح انطوني شقير فرعاً جديداً لمحل شوكولا lakrids by bulow الدانماركي المعروف، في احتفال كبير أراده شقير احتفالاً بعودة الحياة الى أجمل وأرقى معلم سياحي في بيروت، «حرام أن تموت الأسواق وسنقوم بحملة لإعادة الروح إليها، قلب بيروت يجب أن يعود. لقد قدمت لنا إدارة الأسواق، نحن كمستثمرين شباب، كل التسهيلات حتى «نقلّع» واعطونا حوافز لنكون جزءاً من عودة الحياة الى هذا المشروع الذي يعتبر علامة مميزة في وسط بيروت بهندسته وأجوائه وتنوع مرافقه…»، كما يقول.
وبالحماس نفسه يتحدث الشباب عن مشاريعهم في الأسواق، إتيان ومحمد يتحدثان عن باتسري des choux et des idées الذي سيفتتح فرعه الجديد بعد رأس السنة ويقولان: «لو لم يقدموا لنا التسهيلات لما تشجعنا، رغم إصرارنا على ان نكون جزءاً من الأسواق ونتشارك معها الحلم نفسه لا ننكر ان هناك مخاطر ولكن لا شيء في لبنان يخلو من المخاطر. هدفنا ان ننقل تجربتنا الناجحة الى هذا المكان الذي يحمل رمزية عالية وذكريات بعض من طفولتنا ويضعنا على تماس مع مروحة واسعة من الرواد والزبائن».
مطاعم قديمة عادت الى أماكنها في الأسواق وأخرى جديدة تجرأت على افتتاح فروع فخمة لها فيها شهدت في موسم الصيف الماضي نجاحاً كبيراً. منطقة مينا الحصن التي ارتفعت اسهمها واستقطبت ارقى المقاهي خلقت بدورها أجواء استثمارية دفعت بالمستثمرين لحجز أمكنة لهم في أسواق بيروت ليكونوا قريبين منها ويتحضروا لمواسم واعدة.
ديناميكية جديدة
«الأعمال الناجحة هي الهدف يقول أديب النقيب المدير العام لأسواق بيروت، لقد جلنا على كافة المناطق اللبنانية وحيثما رأينا قصة نجاح عرضنا على أصحابها التواجد معنا في الأسواق. أردنا تقديم كل التسهيلات حتى نجمع الحكايات الناجحة في قلب بيروت ونعيد الفرحة والرهجة الى أسواقها. أردنا أن نعطي فرصة للشباب للتمسك بوطنهم وثنيهم عن الهجرة ليتمكنوا من تطبيق أفكارهم وطموحاتهم الأمر الذي يعزز الديناميكية في الأسواق ويضخ فيها أفكاراً جديدة. على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كرسنا جهودنا لتجديد وإصلاح الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والواجهات والزجاج والمصاعد والأدراج الكهربائية والأسقف في أسواق بيروت، وكل ذلك دون تغطية شركات التأمين».
المستأجرون من جهتهم تحملوا تكاليف التصليح داخل متاجرهم مع كل ما يعنيه ذلك من عبء في غياب أي التزام لشركات التأمين. بعضهم تمكنوا من ذلك فيما تردد البعض وعجز البعض الآخر وفضل أن يغيب عن الأسواق. العائدون الفوريون كانوا أكثر من 50 مستأجراً استأنفوا عملهم لكن الأعداد مرشحة للارتفاع وصولاً الى 90% ملاءة…
«نحن فخورون بأن نعلن أننا نسير على الطريق الصحيح لإعادة الافتتاح الكبير في صيف العام 2024. لقد أحرزنا تقدماً كبيراً في استقطاب مستثمرين وتجار»، يقول النقيب، «حيث تم بالفعل إعادة افتتاح وإطلاق العديد من المتاجر الجديدة، ومن المقرر إطلاق العديد منها في وقت لاحق من هذا الشهر والأشهر القليلة المقبلة، وسيتم إفتتاح المحلات والمطاعم تدريجياً. ومع توقع تسارع الأعمال والافتتاحات، فإننا نستعد لبداية ديناميكية ومزدهرة في العام 2024».
كلفة العودة
كلفة إعادة إحياء الأسواق كانت باهظة بقدر ما كانت الأضرار كبيرة سواء على شركة سوليدير أو على التجار والمستثمرين. لكن هل تعيد الأرباح المنتظرة قيمة ما أنفق لإعادة إعمار الأسواق؟ «هدفنا ليس الربح بل إعادة الحياة الى وسط المدينة»، يقول النقيب، «الى هذا القلب الذي يجمع بين طرفي بيروت اي مينا الحصن من جهة والصيفي من جهة ثانية ويشكل النقطة المحورية التي تتمركز حولها شرايين أساسية في العاصمة، من الواجهة البحرية الى منطقة الفنادق الكبرى ومرفأ بيروت السياحي «بيروت مارينا» وصولاً الى المكاتب والمناطق التجارية».
لكن الكلفة لم تتوقف عند الأضرار التي نجمت عن انفجار بيروت المشؤوم بل كان لزاماً على الشركة أن تفي بتعهداتها تجاه عمالها وموظفيها وتجاه المستثمرين على اختلافهم. «على مدى ثلاث سنوات لم نتوقف عن دفع الرواتب حتى حين كان الموظفون في بيوتهم، لم نتخلّ عن أحد وقمنا بواجبنا تجاه المستثمرين، فأمّنا لهم المتطلبات الأساسية من كهرباء وحراسة وغيرها ولم نتقاض إيجارات من المحال المقفلة فيما خفضنا الإيجارات لتتناسب مع وضع البلد وانهيار العملة فيه».
بعضهم قد يقول سوليدير بتحمل لكن مجرد تخيل الأرقام يبدو مخيفاً…
ختاماً، يقول النقيب، «لطالما كانت بيروت مزيجاً من الثقافات والتنوع وهي للجميع وستظل كذلك. لذا كان الهدف إيجاد مزيج متنوع داخل أسواق بيروت يخلق جواً حيوياً يجذب جمهوراً واسعاً ويجعل أسواق بيروت وجهة متميزة في المنطقة. قادرة على التكيف مع الاحتياجات والتحديات المتغيرة، ولا يسعنا إلا أن نظل متفائلين ونحن نمضي قدماً بروح إيجابية.
المشروع الحلم
بالعودة الى نشأة الأسواق أردنا تكوين فكرة عن هندستها ومساحاتها فعرفنا أنها تغطي إجمالي مساحة قدرها 163,000 متر مربع، منها حوالى 17,300 متر مربع مخصصة لمناطق المشاة. وتضم حوالى 190 متجراً ومطعماً للبيع بالتجزئة، ومجمع سينما مستقلاً يضم 15 صالة مميزة وباحة مطاعم، بالإضافة إلى مجمع تجاري عالمي يتوقع افتتاحه قريباً.
وتضم الأسواق شوارع مخصصة للمشاة مكشوفة أو مغطاة تتضمن محلات تجارية وتتخللها ساحات عامة يستطيع الزوار أن يتجولوا فيها بهدف التسوق والترفيه. يتضمن السوق 4 شوارع تاريخية لا يزال محبو بيروت القدامى يذكرون اسماءها وهي سوق الطويلة، وسوق أياس، وسوق الجميل، وسوق أروام. إضافة الى عدد من المعالم الأثرية وسوق للذهب.
إشترك في تصميم الأسواق مهندسون معماريون لبنانيون ودوليون من حملة الجوائز العالمية. وتم الانتهاء من تصميم الأسواق الأساسية وسوق المجوهرات، اللذين صممهما على التوالي رافائيل مونيو الإسباني وكيفن داش من بريطانيا مع تصميم المساحات الخارجية للفرنسي أوليفييه فيدال، وافتتحا في العام 2010. أما مجمع السينما، الذي صممه الفرنسي فالودر ايه بيست فتم إطلاقه العام 2013 ويعتبر بين أفضل ثلاثة مجمعات سينمائية في لبنان، ولا يزال المجمع التجاري العالمي من تصميم الكبيرة زها حديد قيد الإنشاء ومتوقع انتهاؤه مطلع العام 2025.