في منتصف الشهر الحالي، تناقلت وسائل الإعلام خبر تلقّي بنك عودة دعوى جديدة أمام المحكمة العليا في وويلز، على خلفيّة امتناعه عن تسديد قرض بقيمة 234 مليون دولار أميركي لمصلحة مؤسّسة التمويل الدوليّة. وفي مطلع الأسبوع الراهن، ردّ بنك عودة ببيانٍ استغرب خطوة الادعاء، وبرّر امتناعه عن الدفع بصدور قرار عن مصرف لبنان يفرض هذه الخطوة. وفي منتصف الأسبوع أوضحت مصادر مصرفيّة لـ “المدن” أنّ بنك عودة لا يملك نص قانوني يعطيه صلاحيّة الامتناع عن الدفع على هذا النحو، ولا يمكن لمصرف لبنان أن يستخدم صلاحيّاته التنظيميّة للتدخّل في التزامات تعاقديّة بين المصرف ودائنيه الدوليين.
الوقائع والأخبار الثلاثة لا تناقض بعضها البعض، بل ترسم مشهدًا واضحًا للقضيّة: المصرف يغطّي نفسه بقرار من مصرف لبنان، والمؤسّسة تستند في الدعوى إلى قوانين لا يفترض أن تبطلها قرارات تنظيميّة، تمامًا كما أشار المصدر المصرفي في حديثه لـ “المدن”. السؤال الأساسي هنا: هل يجب أن يُسدّد بنك عودة هذا القرض المرؤوس؟ وهل يجب استنكار أو انتقاد خطوة مصرف لبنان بهذا الخصوص؟ وإذا كانت الدعوى تحمل مخاطرًا قانونيّة على المصرف، من يتحمّل المسؤوليّة هنا؟ الإجابة على هذه الأسئلة، تقتضي أولًا التدرّج في إيضاح المفهوم القانوني للقرض المرؤوس الذي نتحدّث عنه.
حدود الحصانة القانونيّة
في البداية، من المهم الإشارة إلى نقطة بالغة الحساسيّة : نحن لا نتحدّث عن وديعة، ولا عن قرض عادي، وعلى عن مديونيّة ناتجة عن تمويل تقليدي. هذا قرض مرؤوس. وفي مفاهيم مصرف لبنان وتعاميمه، هذا جزء من الأموال الخاصّة الإجماليّة، تمامًا كحقوق المساهمين والأسهم التفضيليّة وغيرها من الأدوات التي تعزّز رأسمال المصرف. بل وفي معايير بازل 3، هذه الأموال هي رأسمال من الفئة الثانية. بهذا المعنى ولهذا السبب، القرض أقل حصانة طبعًا من الوديعة أو الدين العادي، في حال حصول التعثّر، وهذا تحديدًا سبب تسميته بالمرؤوس: لأنّ الإلتزامات الأخرى ترأسه من حيث الأولويّة.
سنشرح طبيعة القرض من زاوية أخرى: المؤسّسة الدائنة هي مساهم في المصرف، أي شريك فيه مثل آل عودة. وفي مراحل معيّنة قبل الأزمة، طلب مصرف لبنان من أصحاب المصارف تعزيز رساميل مصارفهم، عبر وضع “مقدمات نقديّة” إضافيّة تزيد من سيولة المصرف وملاءته. الفكرة من هذا التمويل هي أن يضع المساهمون ما يمكن أن يمتص الخسائر في المستقبل، إن حصلت، لتحصين سائل الإلتزامات الأخرى وتمكين المصرف من الوفاء بها.
على هذا النحو، قرّرت العديد من المصارف اعتماد فكرة “القروض المرؤوسة” لدعم رساميلها، من جانب المساهمين، كما يطلب مصرف لبنان. وضع المساهمون –كحال مؤسسة التمويل الدوليّة- التمويل على شكل قروض مرؤوسة، تعطيهم حق استرداد الأموال لاحقًا.
فكرة القرض المرؤوس هي أن لا يُعطى المساهم حقوق تصويت إضافيّة بموجب التمويل الجديد، وأن لا تؤثّر العمليّة على توازنات القوّة داخل الجمعيّة العموميّة للمصرف. وفي الوقت نفسه، يُعزّز القرض رأسمال المصرف وقدرته على التعامل مع الضغوط الماليّة في المستقبل.
حدود الحصانة القانونيّة للقرض المرؤوس إذًا هي كالتالي: لا يفترض أن ينال المستثمر أو المساهم أي سنت من القرض المرؤوس، إذا عجز المصرف عن سداد الديون والإلتزامات العاديّة الأخرى. غاية القرض المرؤوس أساسًا، حماية الإلتزامات الأخرى، كحال كل أجزاء رأسمال المصرف. في حالة التعثّر، تُسدد الودائع والديون العاديّة أولًا، ثم يتم التدرّج بسداد حقوق مالكي المصرف وأصحاب الرأسمال، ومنهم أصحاب القروض المرؤوسة، وفق ترتيب آخر.
هل يجب تسديد القرض المرؤوس؟
على هذا النحو، يمكن أن نقدّم الإجابة على السؤال الرئيسي. بطبيعة الحال، لا يوجد نص قانوني راهن يسمح بعدم سداد القرض المرؤوس، والتقاعس عن سداد القرض هو مخالفة لنص العقد. لكن في الوقت نفسه: لا يوجد أيضًا نص قانوني يسمح بالتقاعس عن سداد أموال المودعين، الأكثر حصانة –قانونيًا- من أموال القرض المرؤوس، ومن دون الدخول في عمليّة إعادة هيكلة للمصرف. نحن أمام أمر واقع، مفاده أنّ المصرف متعثّر عمليًا، وممتلئ بالخسائر، لكنّه لم يشرع بتنظيم تعثّره قانونيًا.
إذا كان المصرف ممتنع عن السداد لأصحاب الودائع المُحصّنة، بحكم الأمر الواقع، فمن غير المنطقي تبديد ما تبقى من سيولة، لتسديد الإلتزامات للمساهمين أو أصحاب القروض المرؤوسة أو أي شكل من أشكال الرأسمال أو الأموال الخاصّة. ما الغاية من رأسمال المؤسّسة أصلًا، إذا لم يكن مخصصًا لتلقي الصدمات وامتصاص الخسائر؟ بأي منطق يوزّع المصرف الأموال لمساهميه أو دائني القروض المرؤوسة، قبل الإيفاء بإلتزاماته المحصّنة وذات الإمتياز، وعلى رأسها الودائع؟ وما جدوى زيادة الأموال الخاصّة سابقًا، بحسب تعاميم مصرف لبنان، إذا كان من الممكن سحبها عند تلقي الصدمات لاحقًا، وقبل القيام بعمليّة إعادة الهيكلة؟
حبس الودائع، وتسديد الأموال لأصحاب المصرف أو القروض المرؤوسة، سيكون عملًا احتياليًا بحق المودعين. الواقع الراهن، ليس قانونيًا طبعًا. وعدم قانونيّته تبدأ من التقاعس عن إعادة الهيكلة بعد نحو خمس سنوات من الأزمة. وينتج عن ذلك تلقائيًا تشغيل المصرف رغم تعثّره، وعدم السداد للمودعين. هذا الواقع المشوّه والغريب، يفرض أيضًا، وبحكم الأمر الواقع، عدم تسديد القرض المرؤوس لمؤسسة التمويل الدوليّة. القرض المرؤوس أصلًا، كان يفترض أن يمتص أوّل شريحة من الخسائر، كحال رأسمال المصرف، أي أن يُشطب، في سياق أي عمليّة إعادة هيكلة. فكيف نسدده ونحبس الودائع الآن؟ هل يُعالج الواقع المشوّه الراهن بإجراء احتيالي مشوّه؟!
المشكلة الأولى ليست عدم تسديد القرض المرؤوس، بل هي عدم شطب كل الأموال الخاصّة الإجماليّة والرأسمال، في سياق عمليّة إعادة الهيكلة. هذا مصدر التشوّه القانوني، وهذا ما يجب أن يُعالج اليوم. أمّا تسديد القرض المرؤوس ومنح الأموال للمساهمين، فهو إمعان في التشويه والاحتيال الذي يتعرّض له المودع.
من المسؤول عن المشكلة؟
هكذا، أصاب مصرف لبنان في طلبه عدم تسديد القرض المرؤوس. المشكلة ليس في هذا الطلب، بل في أن المصرف سدد للمؤسّسة 66 مليون دولار سابقًا، كفوائد على هذا القرض! ومن هذه الزاوية، من غير المفترض أن نزايد على مصرف لبنان ومجلسه المركزي، بالتشكيك في جدوى القرار أو خلفيّته. التحفّظ على تلكّؤ مصرف لبنان في اتخاذ الإجراءات التصحيحيّة بحق المصارف، لا ينبغي أن يقود المرء للمطالبة بإجراءات تقلّص حقوق المودع في النظام المصرفي اللبناني، أو تسحب السيولة الشحيحة المتبقية من النظام المالي.
الأكيد، هو أنّ عدم تسديد القرض سيفتح باب للمواجهة القانونيّة في محاكم المملكة المتحدة، وسيكون بإمكان المصرف المُحاججة بأن قرار مصرف لبنان مُلزم له، بموجب قانون النقد والتسليف الذي يعطي المصرف المركزي حق تنظيم علاقة المصارف مع عملائها. هذه الحجّة القانونيّة -على تواضعها- هي كل ما يمكن التسّلح به اليوم، بغياب مسار منظم وشامل لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
كل ما سبق، لا يتعارض مع القول أن بنك عودة بات أمام معضلة قانونيّة، بتجاهله هذا الإلتزام. مسؤوليّة هذا الواقع، وهذه المخاطر، تقع على عاتق كل من أخّر مسار إعادة الهيكلة، ومنهم طبعًا اللوبي المصرفي المؤثّر في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، ومصرف لبنان الذي لم يلعب دورًا بنّاءً في هذا السياق. هؤلاء، يتحمّلون المسؤوليّة من هذه الزاوية، وليس من زاوية عدم تسديد القرض المرؤوس.
القرض المرؤوس لا يجب أن يُسدّد، ومن غير المنطقي أن يُسدّد.