نعيش جميعًا في اقتصاد ديمقراطي ليبرالي جديد مبنيّ على نهج آدم سميث، من دون تدخل حكومي أو بتدخل ضئيل. نظام رأسمالي خالص يكافح في اقتصاد وبلد مفتوحين، لكن هذا النظام الليبراليّ الجديد لا يمكن أن يستمرّ من دون إرشادات مناسبة وشبكات أمان حكومية لجميع قطاعات وجوانب الطبقة العاملة وللناس بشكل عام.
كانت العاصفة تختمر على مدى العقد الماضي. كان الفساد يأكل من موارد الاقتصاد بلا رحمة وبصعوبة ومن دون مساءلة. نظام مفتوح يسمح بالتنقل من دون إرشادات مناسبة، يعتمد فقط على جذب العملة الصعبة في تطوّر غير منتج إلى جانب اقتصاد أسود ضخم.
ذهبت تدفقات رأس المال في العقد الماضي إلى القطاع العام، وبالتالي ازدهر هذا الأخير على حساب القطاع الخاص. وأدّت سياسات الإقراض المستمرّة للحكومة على حساب القطاع الخاص إلى ما يسمّى بتأثير المزاحمة الذي أدّى إلى زيادة تدريجيّة ومستمرّة في أسعار الفائدة إلى مستويات مثيرة للقلق.
تحت تأثير المزاحمة، بدأت البنوك المحلية بإعادة تحليل طريقتها في توجيه الأموال وهيكلة المخاطر الداخلية، حدث أمر لا مفرّ منه. وشهد النصف الأول من عام 2019 زيادة تدريجيّة ومستمرّة في أسعار الفائدة عند مستويات تنذر بالخطر، وطلبًا تدريجيًا على الأوراق النقدية بالدولار من أجل تخزينها فعليًا.
وبالتوازي مع ذلك، بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلّي الإجمالي ذروتها عند 160 %. بدأت أسعار سندات اليوروبوندز بالانخفاض وارتفعت العائدات إلى الأعلى. وباشرت وكالات التصنيف الائتماني في خفض تصنيف الديون الخارجية للحكومة اللبنانية وانعكس ذلك في النهاية على التصنيف الائتماني للقطاع المصرفي اللبناني. موجة من الذعر ضربت، العواصف تختمر في الأفق وتشي بفوضى تعمّ البلد.
الزلازل: الثورة
مهّد الإخفاق في تقديم ميزانية حكومية مناسبة مع الإصلاحات الطريق أمام تظاهرات متعدّدة الطوائف، وانتفاضات مناهضة للفساد.
كان غضب الحشود واستياؤهم من الموجات الزلزالية الوحيدة التي هزت البلاد وتسبّبت في إغلاق الاقتصاد بأكمله.
بعد إعادة الافتتاح، واجه القطاع المصرفيّ أصعب واقع وتحدّي البقاء في بيئة جديدة حيث جفت تدفقات رأس المال وتآكلت قاعدة رأس المال أو قاعدة الطبقة الوسطى. وهكذا، حصل الانهيار التام للنموذج القديم… نزل الناس إلى الشارع وانفجروا في وجه مكافحة الفساد وعدم المساءلة والمحسوبية في جميع جوانب الاقتصاد اللبناني.
ضرب الزلزال النظام المصرفي في جوهره، أي قاعدة رأس المال بالإضافة إلى تدفقات رأس المال التي كانت تستخدم لتمويل العجز المزدوج، أي تبخرت الميزانية والتجارة.
التداعيات
في حلول نهاية العام وبداية عام 2020، ارتفع معدّل التفاعلات واستخرج جذور كلّ مؤسّسة عامة وخاصة. بدأ تدمير الاقتصاد اللبناني يلقي بظلاله على المستوى المعيشي للمواطنين اللبنانيين والمقيمين من جميع الطبقات.
كانت لدى البنوك حتى نهاية عام 2019 قاعدة ودائع ضخمة بإجمالي أصول يبلغ حوالى 160 مليار دولار أميركي، بإجمالي ناتج محلّي معلن يبلغ حوالى 55 مليار دولار، لذا فإن العمق المالي يبلغ 2.5 إلى 3 أضعاف حجم الاقتصاد.
حدث التخلّف عن السداد مع تجفيف تدفقات رأس المال وعدم توجيه أموال جديدة بالعملة الصعبة إلى النظام المصرفيّ، وبالتالي توقفت سلطات الدولة عن سداد مستحقاتها على الديون الخارجية ووقع انهيار مالي بسبب الدعم العشوائي لمستفيدين من غير اللبنانيين. وتمّ وضع ظوابط رأس المال على التحويلات الصادرة بطريقة تمييزية.
التطلع إلى المستقبل
هناك حاجة ماسة لدور جديد واقتصاد جديد بالإضافة إلى صورة جديدة للنظام المصرفي يجب أن يتمّ تنفيذها لاستعادة الثقة في النظام الليبرالي.
من أجل ظهور حقبة جديدة، يجب تطبيق نظام محافظ ليبرالي وديمقراطي جديد يكون فيه التعليم المجاني هو ركيزة النظام الرأسمالي والتغطية الطبية الشاملة شرطًا ضروريًا.
يجب أن نفكّر جميعًا بانفتاح لبنان كبلد صغير فيه مواطنون مرنون يعملون بجدّ. هذا البلد يمكن إعادته إلى مسار النموّ والتنمية في بنية تحتية حديثة ومستويات معيشية أعلى (بالإضافة إلى خلق فرص العمل). والطريق لبلوغ هذا الهدف، يكمن في تقليص حصة القطاع العام من الناتج المحلّي الإجمالي (نصيبه 35 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2019) وزيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد.
هنا، يجب على المصارف مراجعة نموذج أعمالها للمساعدة في تمويل القطاع الخاص والسماح له بالسعي مرة أخرى لإخراج البلاد من الفوضى الحالية.
كان النموّ يقترب من الصفر في عام 2019 بسبب العديد من العوامل ولكن بشكل رئيسي بسبب تأثير المزاحمة والفساد.
في نظرة خلفية إلى الأدوار السابقة، كانت البنوك في سبعينات القرن الماضي تواكب طفرة النفط. في زمن حرب الثمانينات، سرت طفرة إعادة الإعمار. في التسعينات، شهدنا طفرة العقارات. بين 2020 و 2025: يجري البحث عن دور جديد ومتخصّص. إذ هناك حاجة ماسة إلى دكتاتورية اقتصادية لبيئة تشغيل جديدة مليئة بالتحدّيات بدأت بالظهور في عام 2019.
على البنوك تقليل تركيزها وربحيتها على هامش أسعار الفائدة والتحوّل إلى هوامش أو عمولات قائمة على الرسوم والتركيز بشكل أكبر على الخدمات المصرفية الخاصة في لبنان والخارج، بالإضافة إلى الحاجة إلى إنشاء بنوك متخصّصة في الإسكان والصناعة والتعليم والزراعة بالإضافة إلى النفط والغاز والتمويل الأصغر.
لا مزيد من تمويل الديون واستخدام سندات اليوروبوندز والأسهم التفضيلية لتمويل النمو والبدء بالتنفيذ والتركيز على أسواق رأس المال كما هو الحال في الاقتصادات المتقدّمة، وتعزيز دور بورصة بيروت مع الخصخصة و BOT و PPP (شراكة بين القطاع العام والخاص) ولعب دور في عروض الأسهم. كل ذلك مع إرشادات مناسبة وشفافية تجارية، ولا مزيد من المحسوبية والمزيد من سيادة القانون على الجميع والقضاء القوي والعادل.
وستكون إعادة الرسملة ودمج البنوك الصغيرة والمتوسطة في نهاية المطاف نتيجة الدور والنموذج الجديد.
يتطلّب النجاح خطوات جريئة وتفكيرًا استراتيجيًا وممارسات عمل جديدة فعّالة.



