تاريخ “أوبتيموم” الأسود: لهذه الأسباب استعان بها سلامة

مع مرور الأيام، تتسع شيئًا فشيئًا دائرة الحقائق التي نعرفها عن الجرائم والشبهات الماليّة التي أحاطت بإدارة مصرف لبنان خلال الفترة الماضية. ما تمّ تداوله مؤخرًا بخصوص شركة “أوبتيموم”، تركّز بشكل خاص على مسألة العمولات المشبوهة، التي تراكمت بين عامي 2015 و2018. وللتذكير فقط، حصّلت الشركة خلال تلك الفترة أرباحًا تخطّت قيمتها 8 مليار دولار، عبر 45 عمليّة اقتصرت على شراء سندات من المصرف المركزي، وثم بيعها للمصرف في اللحظة ذاتها بأسعار مرتفعة، لتحقّق عوائد وصلت نسبها إلى 239% في بعض الأحيان. سحب رياض سلامة الأرباح من حساب الشركة إلى حساب وسيط في مصرف لبنان، بموجب تفويض، ولم نعرف هويّة المستفيدين أو مصير الأموال حتّى اللحظة.

لكن بعيدًا عن هذه العمليّات، لم تولد “أوبتيموم” في تلك المرحلة، ولم تقتصر “إبداعاتها” الماليّة على هذه الفضيحة. يوم أتى رياض سلامة بشركة “أوبتيموم” لتقوم بهذه العمليّات، كان للشركة أساسًا سجلّها الحافل في مجال التحايل على الأسواق الماليّة، وتحقيق الأرباح المشبوهة، وبارتكابات مشابهة جدًا لتلك التي جرت لاحقًا.

العودة إلى هذا التاريخ، الذي سبق العام 2015، تؤكّد حقيقة بسيطة: لقد استعان رياض سلامة بالشركة المناسبة جدًا، حين قرّر القيام بهذه الألاعيب. كانت “أوبتيموم” تلعب في ملعبها، وضمن اختصاصها، ولم تكن مجرّد منفّذ لأوامر رياض سلامة.

عمليّات “السواب” والتحايل على أسواق المال
انكشاف فضيحة العمولات، ومن ثم الحقائق المتصلة بكيفيّة تراكم الأرباح، دفع البعض إلى نبش تاريخ الشركة، انطلاقًا من تحقيقات سابقة لوحدة الرقابة على الأسواق الماليّة، التي تتبع لهيئة الأسواق الماليّة. تلك التحقيقات، وثّقت أجزاءً كبيرة من الأنماط الاحتياليّة التي قامت بها شركة “أوبتيموم” قبل العام 2015، ومنها تلك التي تتشابه مع العمليّات التي جرت لاحقًا مع مصرف لبنان، والتي أنتجت عمولات الـ8 مليار دولار.

يومها، كشفت وحدة الرقابة قيام شركة “أوبتيموم” بعمليّات “سواب” مشبوهة بين عدّة مصارف تجاريّة، وبقيمة إجماليّة قاربت 135 مليون دولار. كل عمليّة من هذه العمليّات، قامت على شراء سندات يوروبوندز من أحد المصارف، ثم بيعها بأسعار أعلى أو أقل لمصرف ثانٍ، ومن ثم إجراء العمليّة نفسها لكن بشكل معاكس.

حصيلة العمليّة بطبيعة الحال ستكون صفريّة، إذ أن أرباح أحد أوجه العمليّة ستقابلها خسائر موازية، بعد القيام بالعمليّة المُعاكسة، بينما تكتفي الشركة بتحصيل عمولة البيع والشراء من المصرفين. وهكذا، لم تجد وحدة الرقابة في تحقيقاتها أي تفسير نظيف أو نزيه لعمليّة من هذا النوع.

في تقرير وحدة الرقابة، تم توثيق مراسلات داخليّة -بين عامي 2012 و2013- تُظهر خشية بعض موظفي المصارف من إتمام عمليّات غريبة من هذا النوع، خصوصًا أن الأسعار التي يتم تسجيلها لتنفيذ هذه العمليّات كانت بعيدة جدًا عن الواقع. ومع ذلك، كانت تلك العمليّات تتم تحت ضغط وإلحاح إداريي الشركة، وهو ما يطرح السؤال عن طبيعة العلاقة التي تجمع الشركة بأصحاب هذه المصارف. وفي جميع الحالات، وعند إجراء وحدة الرقابة هذه التحقيقات عام 2015، رفضت “أوبتيموم” التجاوب وتقديم المعلومات التي يمكن أن تفسّر غاية وسبب إجراء هذه العمليّات.

الخلاصة التي توصّلت إليها وحدة الرقابة يومها، حسب تقريرها، هي أنّ الشركة كانت تتحايل لتجنيب المصارف تسجيل الخسائر المترتبة على انخفاض أسعار سندات اليوروبوندز. بصورة أوضح، كانت الشركة تجري هذه العمليّات الصوريّة، لإعادة تسجيل هذه السندات في الميزانيّات بأسعار أعلى، مقارنة بسعر السوق الفعلي.

العمليّة بأسرها، كانت مجرّد ألاعيب محاسبيّة، لعرض صورة مخادعة في أرقام المصارف. وللتذكير، كانت هذه العمليّات الاحتياليّة تجري قبل العام 2015، أي قبل أربع سنوات من انكشاف الانهيار المصرفي. “أوبتيموم”، تمامًا كسلامة، كانت شريكة في إخفاء الخسائر، خلال فترة تراكمها.

الإشكاليّة الثانية في تلك العمليّات، هو تحايلها على أسواق المال، عبر افتعال حركة بيع وشراء بأسعار غير واقعيّة، وهو ما يؤثّر حكمًا على القيمة السوقيّة المعروضة أمام المستثمرين. وهذا تحديدًا ما فرض تدخّل وحدة الرقابة للتدقيق بهذه العمليّات، التي تمس بشفافيّة الأسواق ونزاهتها. وأشار التقرير إلى أمثلة من أربع مصارف تورّطت في هذا النوع من العمليّات، وهي بنك الاعتماد الوطني وبنك بيروت وبنك عودة وبنك مصر لبنان.

مخالفات فادحة أخرى
من بين المخالفات الأخرى التي وثّقتها وحدة الرقابة، قيام “أوبتيموم” بممارسة البيع على المكشوف، أي بيع الزبائن -ومنهم المصارف- سندات لا تملكها الشركة بالفعل. بهذا المعنى، باتت الشركة مدينة دفتريًا للمشترين بالسندات، من دون أن تحمل في موجوداتها هذه السندات.

وغالبًا ما تجري هذه العمليّات بهدف المضاربة، والاستفادة من احتمال انخفاض أسعار هذه السندات في المستقبل، حيث تقوم الشركة لاحقًا بشراء السندات بالأسعار المنخفضة. وفي العادة، تُفرض ضوابط تنظيميّة محكمة في الأسواق الأجنبيّة عند ممارسة هذا النوع من العمليّات الخطرة، في حين أنّ هيئة الأسواق الماليّة في لبنان تمنعها بالمطلق. وعلى أي حال، قامت “أوبتيموم” بهذه الممارسة، من خارج القانون، ومن خارج أي ضوابط تنظيميّة.

كما اتهم تقرير الوحدة الرئيس التنفيذي للشركة أنطوان سلامة بخيانة الأمانة، عبر استيفاء رسوم خياليّة للقيام بالعمليّات لمصلحة عملائه. إذ أنّ أنطوان سلامة نفسه هو مدير ومستشار أحد الصناديق الاستثماريّة (كايروس لبنان)، ما يجعله مؤتمنًا على أموال المساهمين في هذا الصندوق. لكنّ أنطوان سلامة عمد إلى إجراء عمليّات الصندوق -أي عمليّات عملائه- من خلال شركة “أوبتيموم” -التي يديرها هو أيضًا- بكلفة غير منطقيّة، وبهدف تحقيق ربح غير مشروع من هذه العمليّات. ولهذا السبب، اعتبرت وحدة الرقابة وجود أنطون سلامة في الموقعين، أي الصندوق والشركة، تضاربًا واضحًا في المصالح.

وعلى هذا النحو، تطول قائمة التجاوزات التي عددتها وحدة الرقابة: من فرض الرسوم المُكرّرة على العملاء، وزيادة كلفة العمليّات من خارج الاتفاق مع العملاء، إلى التحايل بإجراء عمليّات غير مشروعة مع شركات تملكها “أوبتيموم” نفسها أو زوجات المساهمين فيها. وفي جميع التحقيقات، ثمّة إشارات متكرّرة إلى شبهات ترتبط بعمليّات غير طبيعيّة، أو بأرباح غير مألوفة، أو بتضارب المصالح، وهو ما يطرح دائمًا السؤال عن غاية عمل الشركة نفسها.

مصرف لبنان يكافئ الشركة
كل هذه الخلاصات، التي حققت فيها وحدة الرقابة عام 2015، جُمعت في تقرير رُفع إلى هيئة الأسواق الماليّة التي يرأسها رياض سلامة. توصيات الوحدة، ذهبت للمطالبة بوقف عمل “أوبتيموم” كليًا مع مصرف لبنان، وإقالة المديرَين المسؤولَين عن المخالفات، أنطوان قسيس وأنطوان سلامة، وإجبار الشركة على إعادة الأرباح الاحتياليّة التي استفادت منها، ومنها عمولات “السواب” والعمولات المُكرّرة على العملاء. باختصار، كان يُفترض أن ينتهي هذا النموذج.

لكن رياض سلامة امتلك رأيًا آخر: قرر توسعة تعامل الشركة مع مصرف لبنان، ليشمل سلسلة العمليّات التي جرت بين عامي 2015 و2018، والتي أفضت إلى عمولات الـ8 مليار دولار. هكذا، اعتمد سلامة الشركة الأكثر خبرة بعمليّات “السواب” الاحتياليّة، ليقوم بنموذجه الخاص من عمليّات بيع وشراء السندات بين مصرف لبنان والشركة. وفي طريقه لتنفيذ النموذج، طمس سلامة تقرير وحدة الرقابة، وطمس معه دور هيئة الأسواق الماليّة في مراقبة هذه المخالفات.

قد يبدو كل ما سبق مفهومًا إذا ما تذكرنا أنّ أبرز المساهمين في شركة “أوبتيموم” لم يكن سوى رجا أبو عسيلي، عبر زوجته. ولمن لا يعرف أبو عسلي: كان يد رياض سلامة اليُمنى في مصرف لبنان، وصديقه الأقرب منذ أن عملا سويًا في “ميريل لينش”. هو ظلّ رياض سلامة، المدير السابق لمديريّة التنظيم والتطوير في مصرف لبنان، وكان أحد الأيدي الخفيّة في “أوبتيموم”.

ويبقى السؤال الأهم: أين ذهبت الـ8 مليار دولار؟

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةسلامة ليس بريئاً في ألمانيا.. والتحقيقات الأوروبية وملاحقته مستمرة
المقالة القادمةقصة صفقة A2P عبر “تاتش”.. والتلاعب بشروط المزايدة