حملت العمليات العسكرية في الجنوب والمناطق المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة عائلات لبنانية كثيرة، قدر عددهم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بأكثر من 110 آلاف شخص، الى النزوح خوفاً على سلامتهم وسلامة أبنائهم، وتوجهوا نحو الداخل اللبناني والتجمعات البحرية والجبلية، والشقق المفروشة.
وبدلاً من سيادة مفهوم التعاضد بين أبناء الشعب الواحد، استيقظ “تجار الأزمات” من نومهم العميق، ليفرضوا بدلات باهظة على النازحين، من دون أي حسيب أو رقيب. وتبعاً لذلك، ولّد الغلاء والاستغلال المتمادي من المؤجرين موجة غضب واستهجان، ترافقت مع دعوات كثيرة لعدم الانجرار خلف الجشع المادي، والمحافظة ما أمكن على روح التضامن والتعاضد مع النازحين وعائلاتهم، وتأمين الظروف المعنوية والإنسانية اللازمة لهم، والكف عن تسعير أسعار الإيجارات فهذا “ليس لبنان”، وليس ما ينبغي أن يكون.
وثمة أوجه أخرى للأزمة، تبدأ من ثقافة اقتناص الربح، التي اعتادها بعض اللبنانيين المتمرسين في استغلال الفرص التي تتأتى من “اقتصاد الحرب” الذي ينشأ عادة على هامش الحروب والنزاعات الأهلية والدولية، ولا تنتهي بتداخل المواقف السياسية والحزبية، مع اعتبارات طائفية ومذهبية، كادت تدفع باتجاه حصول إشكالات وتوترات أمنية، لولا حكمة العقلاء، وتدخل المرجعيات الروحية أحياناً.
من يضبط التفلت؟
وإن كان استغلال الأزمة يبدو فاقعاً على الإيجارات السكنية، فإنه طال أيضاً محالّ تجارية أراد النازحون اللبنانيون من خلالها استكمال أعمالهم بغية تأمين لقمة عيشهم والصمود. فمن يضبط عشوائية تحديد الإيجارات؟
مصادر قانونية تؤكد لـ”النهار” أن تحديد البدلات للإيجارات السكنية وغير السكنية يخضع لقاعدة العرض والطلب في السوق، ولكل منطقة أسعارها، وهو بمنزلة عرف قانوني معلوم ومكرّس، غير أن البطش في ذلك لا يحده سوى الأخلاق وشعور التعاضد بين اللبنانيين تجاه الأزمة.
أما رئيس “تجمع الحقوقيين للطعن وتعديل قانون الإيجارات” أديب زخور فكان قد أكد أنه “يجب على البلديات والأجهزة المختصة اعتماد العرض والطلب وبدلات الإيجار للشقق التي كانت رائجة قبل الحرب في الجنوب كمعيار لبدلات الإيجار، والمسجلة في البلديات منذ نحو عشرة أشهر أي قبل شهر تشرين الأول الماضي من عام 2023، وإلزام تسجيل العقود الجديدة في البلديات وفقاً لهذه الأسعار والقيم التأجيرية تحت طائلة إحالة المخالفين الى النيابة العامة وتوقيفهم وفرض غرامات مرتفعة والمصادرة”.
ويأتي هذا الاقتراح برأيه “لمنع رفع بدلات الإيجار بطريقة غير قانونية واستنسابية ومنعاً لإفساد العرض والطلب المخالف للمادة 685 عقوبات التي تعاقب بالحبس لمدة تصل الى سنتين وبالغرامة، إضافة الى تحريك الدعوى العامة”. علماً بأن زخور كان قد اقترح سابقاً أن يضع المجلس النيابي سقفاً لبدلات الإيجار ويضع الآلية والإجراءات لها، مشدداً على ضرورة أخذ “الإجراءات العاجلة والطارئة لمنع انفلات الأمور واستغلال المواطنين والعائلات وإنزال أشد العقوبات بالمخالفين وفقاً للقانون وللخطة المقترحة أعلاه لمنع المتاجرة بأهل وطننا في هذه الظروف الاستثنائية جداً وحمايةً لهم”.
ولكن الحديث عن البدلات العشوائية للإيجارات في ظل هذه الأزمة، لا ينفصل عن موضوع إيجارات الأماكن السكنية وغير السكنية المعقودة قبل تاريخ 23/7/1992 أي “الإيجارات القديمة”، إذ تؤكد الدكتورة المحامية جوديت التيني أن “الأحكام القضائية الصادرة أخيراً قضت بتحرير الأماكن السكنية بالكامل باعتبار أن مهلة التسع السنوات المقررة للتمديد قد انتهت بتاريخ 28/12/2023. وهكذا باتت حرية التعاقد بين المالك والمستأجر هي القاعدة وبات بإمكان المالكين استرجاع أملاكهم. واللافت أن للقرارات القضائية الصادرة توجهاً واحداً يقضي باعتبار مهلة التمديد القانوني الإضافي للإيجارات السكنية قد انقضت بالكامل ولا عوداً على بدء إلا بفعل اتفاق الطرفين على شروط جديدة للتعاقد. هذا بالنسبة للإيجارات السكنية، لكن ماذا عن الإيجارات غير السكنية؟
أوضحت التيني أن “مفعول قانون إيجارات الأماكن غير السكنية رقم 243/2021 انتهى، ولم يعد ثمة تمديد إضافي منذ حلول تاريخ 30/6/2022. وكان مجلس النواب قد أقر في 15 من كانون الأول من عام 2023 قانوناً خاصاً بالإيجارات غير السكنية، بيد أن الحكومة المستقيلة رفضت إصداره ونشره وأعادته الى مجلس النواب للمناقشة والتصويت عليه من جديد. وقد اعتدت في ذلك على صلاحية تعود حصراً لرئيس الجمهورية ومكرّسة له في الدستور ولا يعود لحكومة مستقيلة في ظل الفراغ الرئاسي أن تمارسها”.
وفي ضوء انتهاء مفعول قانون التمديد في نهاية حزيران من عام 2022 وعدم صدور ونشر القانون الذي أقرّ في مجلس النواب في نهاية عام 2023، ما الحل الذي ستتبعه المحاكم بخصوص الدعاوى المقامة أمامها أو التي قد تقام؟ إذ من المتوقع أن ينظر القضاء في الكثير من دعاوى الإخلاء بحق المستأجرين القدامى بحلول السنة القضائية الجديدة في الخامس عشر من أيلول المقبل.
واستناداً الى هذه المعطيات ترى التيني أن “العودة الى تطبيق قانون الموجبات والعقود هي المحتمة، ومبدأ حرية التعاقد سيكون تكريسه واجباً، ولا بد من أن يصار الى تطبيق قانون الموجبات والعقود ومبدأ حرية التعاقد الذي يكرّس التقاء مشيئتي المالك والمستأجر واتفاقهما على شروط التعاقد، دون أي وجود لتمديد قانوني إضافي”.
وتالياً، تؤكد أنه “لا مجال في هذا الإطار لتطبيق “نظرية الفراغ القانوني” والتريث في بت الدعاوى لحين صدور قانون جديد، استناداً الى المبادئ العامة والمادة الرابعة من قانون أصول المحاكمات المدنية. فالمبادئ العامة في القانون تقضي بواجب العودة الى القانون العام لدى انقضاء مفاعيل القوانين الاستثنائية، والقانون العام هنا هو قانون الموجبات والعقود ومبدأ حرية التعاقد، والقاضي اللبناني ملزم سنداً الى المادة الرابعة من قانون أصول المحاكمات المدنية بالنظر في الدعاوى المقامة أمامه وبتّها دون أي إبطاء أو تأخير تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق، وتالياً لا مجال للقول “بنظرية الفراغ القانوني”، وانتظار صدور قانون جديد لبت الدعوى المقامة أو التي قد تقام”.
قد نكون إذن أمام تحريرٍ للإيجارات بفعل التمنع (الحكومة) عن إصدار ونشر قانون الإيجارات غير السكنية الذي أقره مجلس النواب في جلسة كانون الأول، ويتذرع البعض بأن الدولة هي من المستأجرين القدامى “الكبار” ومباني المدارس الحكومية المستأجرة مثال بارز في هذا الإطار. وإن كان موضوع تحرير الإيجارات مؤجلاً في الوقت الراهن أقله الى ما بعد بدء السنة القضائية الجديدة، فإن موضوع غلاء البدلات أمر راهن يعاني منه النازحون اللبنانيون في مختلف المناطق اللبنانية.